إشكاليات الذاكرة واستعمالاتها في ضوء الفكر الحديث

للمفكر البحريني والناقد الثقافي الدكتور نادر كاظم إسهامات عديدة في حقل الدراسات الثقافية التي خرج أكثرها عن حقل النص الأدبي إلى حقل الاجتماعي والسياسي، ومن تلك الكتب التي تشكِّل واحدة من أهم مشاريعه الفكرية، كتابه المهم (استعمالات الذاكرة في مجتمع تعددي مُبتلى بالتاريخ) إذ ينشغل فيه بحسب ما يصف "في قراءة الأمراض والعيوب الجماعية السياسية والثقافية التي تهيمن على الحالة البحرينية"، وفي الوقت نفسه الذي يؤكِّد على خصوصية تناول الظواهر الاجتماعية/ السياسية لمملكة البحرين، إلا أنّه يؤكد أنّه بالإمكان أن تكون تلك الظواهر التي تناولها، والمعالجات التي اقترحها منطبقةً على بلدان أخرى، فهي بحسب قوله: "إشكالات عامة وأمراضًا جماعيةً قد تُبتلى بها كل المجتمعات التعددية التي لم تتمكّن من تطوير صيغٍ سياسيةٍ وثقافيةٍ لإمكانية العيش السمح والإدارة السلمية للخلافات التي قد تنشأ بين جماعاتها".
يتوزّع الكتاب في مدخل تناول فيه بصورة عامة عن المحاور التي ينطلق منها في معالجة أمراض الحالة البحرينية، وهي (الذاكرة، والقانون، والأخلاق) وستة فصول على النحو الآتي: الذاكرة النافعة وتفكيك المطابقة، التوافق داخل الدولة: المهمة غير المنجزة، معضلة الولاء في الدولة الحديثة، سيرة الشتات والخراب، التركة الثقيلة لسنوات الشتات والخراب، الناجون والشعور بالهشاشة، مع ملحق للوثائق والمخطوطات.

وقد لا يسعنا الحديث عن تفاصيل كل فصلٍ من هذا الكتاب، إلا أنها جميعًا تنحو نحو هدفٍ أعلنه الكاتب في مقدمة كتابه، وهو "تطوير بديل مقترح يتأسّس على إدارة التنوع الثقافي وتنظيم التعايش السلمي بين الجماعات، وخصوصًا في المجتمعات ذات التعددية الثقافية"، فكان التمهيد عبارة عن حديثٍ موسّع عن الأسباب الموجبة التي دعته إلى الوقوف على "أمراض الحالة البحرينية" التي تناول جزءًا منها في كتابه السابق (طبائع الاستملاك) الذي دار حول ظاهرة الصراع الجماعي على مجال الدولة العام، الذي وقف – بحسب تشخيصه- عائقًا أمام بناء التوافق العام داخل الدولة، ولكنه في هذا الكتاب – استعمالات الذاكرة- وقف عند نماذج أخرى تعيق إنجاز التوافق داخل الدولة والتعايش السمح بين الجماعات وصفها بـ"أمراض التذكّر" بين تلك الجماعات التي لا تُحسن غير "استعمال الذاكرة" واستغلالها وتوظيفها آيديولوجيا وسياسيًا، بما يُعرّض فعل التواصل الجماعي لمزيد من الشقاق والتنازع، ويُمسك المفكِّر نادر كاظم بالخيط الرفيع الذي يجمع بين فعل الاستملاك تلك النزعة العارمة لدى الجماعات باستملاك ما هو غير قابل للاستملاك، بما أكّده عن ماركس في حديثه عن أفكار الطبقة المهيمنة، بوصفها الأفكار السائدة في كل العصور، وتظهر في صورة "أفكار شمولية" لأن الجماعة المهيمنة تعمد إلى تثبيت استملاكها لما هو غير قابل للاستملاك، وبهذه الطريقة تحتكر هذه الأفكار الشمولية فضيلة الشرف والوفاء والعقل والصدق، فتكون هي الأفكار الوحيدة المعقولة، الوحيدة الصادقة صدقًا شموليًا. وبين استغلال الذاكرة وتوظيفها آيديولوجيا وسياسيًّا، الأمر الذي يُعرّض فعل التواصل الجماعي لمزيد من الشقاق والتنازع. وينتهي إلى خطورة هذا الاستغلال القصدي للذاكرة من قبل هذه الجماعات من خطورة الاستملاك، لكون الأخير يجري بضغط من دوافع شبه غريزية من قبيل طبائع الأنانية والجشع والطمع، أما استعمال الذاكرة فهو يجري في دائرة الوعي وبملء الإرادة، الأمر الذي قاده إلى الحديث في المدخل بصورة موسعة عن خطورة الذاكرة وتسييسها وأخلاقيات التذكر، وبيان مدخلية سياسات التذكّر بامتلاك ما يُصطلح عليه بـ(الفضاء العام Public Sphere) الذي عن طريقه تُنظّم استعمالات الذاكرة، ومعلومٌ أنّ أصل التنازع بين الجماعات لا على مجرد استملاك الذاكرة بما هي، بل لما يؤدّي إلى "استملاك الفضاء العام" وهنا يُقرّر المفكِّر نادر كاظم أن "من يمتلك فضاء التذكر العام يمتلك القدرة على تحديد معايير التذكر الجيد، وتحديد ما يُسمح بتذكّره، وما لا يُسمح لفعل التذكر أنْ يمتدّ إليه، وترتبط بهذه المعضلة معضلةٌ أخرى كثيرًا ما تواجه الدول ذات التعددية الثقافية، وهي ذاكرة الدولة الموحّدة وانتخاب ذاكرة وطنية رسمية"، تلك الذاكرة - الرسمية- التي تُفرض على جميع المكوِّنات بقوة القانون وما ينطوي عليه من عنفٍ خفيٍّ وناعم، ليست هي الحل في ظلّ تعددية ثقافية لمختلف الجماعات في الوطن الواحد؛ لأنها في قبال ما تؤسس إليه من ذاكرة تجمع المختلفين تحت يافطتها، تقوم بإقصاء ذاكرة كل جماعة، لصالح "التاريخ الرسمي" وليس من السهل تنازل كل جماعة عن ذاكرتهم الخاصة، بما ينتهي في آخر المطاف إلى "الصراع المحتدم والتنازع الذي يستمد قوّته من شعور الجماعات المهمّشة بأنّ تاريخها مهمّش، وأن ماضيها يتعرّض للإبادة والتصفية". والحل الذي يقترحه الدكتور نادر كاظم، في خيار "علمنة الذاكرة"، محترزًا من الوقوع بسوء الفهم الذي يساور هذا المصطلح من قبل الجماعات التي ترتاب من هذا المصطلح، بضرورة جعل الدولة حياديةً تجاه تواريخ مواطنيها وذاكرتهم الجماعية، لما اشترطته من كونها حيادية تجاه انتماءاتهم الدينية أو الثقافية. وبهذا البديل تكون "دولة بلا ذاكرة" والتأسيس على النسيان بحسب ما يراه أهون من التذكر الانتقائي والإقصائي والإخضاعي، ولأنه الحل الوحيد في مجتمعات قائمة على التعدد؛ لكونه يعمل على حماية السلم العام، "كما أنه يمنح الجماعات الضعيفة والمهمّشة مكاسب ثمينة تضمن عدم طغيان الجماعات القوية والمهيمنة التي عادةً ما تقوم بفرض ذاكرتها الخاصة على أنها تاريخ الدولة العام والرسمي". ولعل هذا الخيار وإن تأسس على "نسيان الذاكرة" فهو أهون شرًا من قيام ذاكرة انتقائية تقصي كل ما يخالف توجهاتها، ولكن نادر كاظم مع ذلك لم يركن إليه، بل حاول التوفيق بين الخيارين والخروج بخيار ثالث يجمع محاسن الطرفين، يتمثل ب