اترك البحر رهوًا وابقَ في البرزخ

نسير معًا في شوارع المدينة التي عبرناها مرّات عديدة. أشجار الدّردار المعمّرة تتنفس ببطء وعمق من مطر خفيف آسر. يدي بيدها، وقلبان يخفقان بحبّه وفقده، وبعده وقربه. ننظر إلى بعضنا، مَن يجرؤ على ألم البوح أوّلًا. أنظر إلى طفولة وجهها الدّائمة، خجل أهدابها التي تشبه أهدابه، ابتسامتها، وكلّها، تلك الصّغيرة التي تشبهه، تقترب اللّحظة من الكمال، فنغرق في محيط مآقينا.. نجفل من فرط حضوره.. ونبقى على مسافة دقّة قلب يفيض بالحبّ... وأكثر.
في طرقات أحسست أنّك أحببتها، سرتُ وحدي على العشب الطّري لفرط مطر غزير أصغي لأنينه تحت أقدامي المتعبة. قلوب صغيرة تتكالب حولي، أشعر بها في هذه المدينة التي لا يعرفني فيها أحد.. يجيش بي الحنين، والحبّ يتنصّل من حنانه. هل هذه الفراشة البيضاء هي أنت؟ هل أتيت لترفع عنّي جبال شكِّي وظنّي؟ هل أنت هنا؟ لِمَ لا أراك؟ ألأنّك تغفو هادئًا في المدى؟ أريد أن أوقف رحيلك. أريد أن أنام.

رأيتك هذا المساء مطمئِنًّا عند ناصية الحبّ، فهُرِعتُ إلى دفء عطرك. وجدتك نائمًا فوق سرير الألم الذي لم يتركك لي عشرين دقيقة أخرى؛ حتّى تركتَه أنتَ مستسلِمًا. مسدِلًا أجفانك المبحرة نحوي، وفمك مُفترٌ عن بقايا حكاية وأغنية أهديتهما لي ونحن في طريق الحجّ إلى قمة الأشياء.. سُرقت منّي قبل أن أتمكّن من تبديل دمي بدمك. أردت اللّحاق بك كي لا أفقد معنى اسمي، فضربت رأسي بجدران الصّمت حتّى سقطتُ في الحقيقة. رأيتك تشهق بروحي وتسأل: أين الله؟!
أربعون عامًا ونحن نهيم في قلب الحبّ، بلا طوق نجاة، ولا هويّة. هُويّتنا: كلّ ما كتبناه وما سنكتب. أحببنا الألم، فلم يستوعب رياحنا المتناوحة فأحكم سطوته. كنّا ننوء بالأمنيّات فتركناها تذرو. كتبنا القصائد والقصص ونحن نرفل في طقوس لم تُخلق إلاّ لنا. أشعلنا شموعًا وأطفأنا أخرى، ورقصنا ملء الكون بلحن أهدته لنا الملائكة. أحببنا الأطفال، فغَصّ بيتنا بهم وبشموسهم الصّغيرة. ذهبنا بعيدًا على غير هدى.. إلى بعضنا. ترجّلنا من فوق صهوات انتظاراتنا لمساءات ممطرة، واكتفينا بكلّ ما نملك عن كلّ ما لا نملك.. اكتفينا بقلبٍ واحد.. هو قلب الحبّ.
في أي سماء أنت؟ وبماذا تزجي الوقت؟ في أي رحاب أسدلت ستائر نومك؟ أحتمل الغياب أن أثبتّ لي أن لا ألم هناك. هل ارتاحت رموشك أم ما زال النّوم يخاتلها؟ هل قربك أنام حوريّة بحر عنيدة.. فلا دسر عندي لأبحر إليك الآن وبلا أجل، ولا أملك ما يعينني على لجج محيطك، فاترُكِ البحر رهوًا، وابقَ في البرزخ.
لن أسمح لأوتار صوتك أن تهرم. ولا لِيَدَيْك أن تتركا خاصرتي. يتوهّج اشتياقي إليك كقمر متسق، واسمك مخطوطٌ فوق جبيني، كي أتعرّف على نفسي ولا أضيع في المستحيل من الذّكريات.. الموج توقف عند قدمي وتراجعت كلّ البحار منكسرة، حتّى رجوتها أن تعود؛ لأنّك هنا، وأطلقتُ صفيرًا للطّيور كي تمارس عشقها. وسألتُ أمي: هل هذا هو اليقين؟
يا معشوقًا أبدِيًّا.. لله درُّكَ ما أجملك! علّمتَنا الحبّ كما لم نحبّ قبلك ولا بعدك. سلّمتنا مفاتيح الجنان وقلت ادخلوا آمنين. أهديتنا تضاريس قلبك واكتفيت بنا. اقتفينا أثر خطوك نحو الجبال المنبسطة. سامرتنا حتّى آخر أوجاعنا. رسمت لنا فرادتك فوق جدران بيوتنا. هزمت كلّ الجيوش، إلاّ تلك التي اتّجهت لقلبك. سمعناك تنادينا: تعالوا نحتفل بعيد الحبّ طَوالَ أيّام السّنة.
لا أعرف مَن هؤلاء الذين يُفَتُون عظامي، يسحقونها في جلسة تعذيب أبديّة. لا أستحقّ ما يحدث لي. أصيح بهم أن توقّفوا لكي أتنفّس، لا تتركوني في غياهب الجُبّ وترحلوا. اعذروا العشق في قلب أضناه الفقد، وترمّد الدّم في شرايِينُه. أصيح يا الله، ليس لي سواك، فأوقف شطرًا من هذا العذاب. كيف لي أن أكمل الطّريق بكلّ هذا التّهتك والجنوح؟! روحي رحلت، وما زلت أتشبّث بأذيالها، وما مِن مغيث. يا خَفِيّ الألطاف، ابعث لي قلبًا جديدًا لا يعرف الحبّ، كي لا أموت مرّتين.
ذهبت أبعد من تفاسير الحبّ، وتركت لي نجمة في سفر و"ثلاث سنابل يفرشون حياتي بالياسمين العبق بأسمائهم الطّازجة كالحياة المفعمة بكلّ الحبّ"، وقلت لي همسًا: قد أرحل. جادلتك في التّوقيت وجادلتني، واخترت يومًا وتاريخًا يحتملان الكثير من التّأويل، كي نحبّك أكثر مما يحتمله وَعيُنا. سمّيت كلّ