الاغتراب في رواية (حنين الخرائط)

عن دار الحوار للنشر والتوزيع صدرت رواية (حنين الخرائط) للشاعر البحريني أحمد رضي، وهي أول رواية تصدر للكاتب، لكنها في الوقت عينه عمله السردي الثاني، إذ سبقتها (معاميرندو: ذاكرة الطفولة في ثمانينيات القرية)، كأن الكاتب قد قطع بروايته هذه نصف مسيرته الشعرية إذ سبق له أن أصدر خمس مجموعات حتى الآن (رباعيات الذئب، نابذا إلياذة الشطرنج، تراتيل الخلاص، مدائن ما بعد الكارثة، طعم شفاهك)، فلا غرابة لو بقي وفيا لحساسيته الشعرية، وهو يبحر في عالم السرد، ساعيا للوفاء بمتطلبات العمل الروائي.
لم تتجل حساسية الكاتب الشعرية في اللغة فحسب، كما هو المنزلق الذي يقع فيه بعض الشعراء حين يقتحمون عالم السرد بل هي حساسية تجسدت في التقاط الحدث، والشخصيات، والحوار المعبر عن فكرة النص التي جاءت في شكل سؤال كبير: (ماذا يعني الحنين؟) سؤال ينفتح بك على أسئلة أخرى مثل: (ما الوطن؟ ما الاغتراب؟)، ولم يجد كاتب العمل أحدا أقدر على مناقشة هذه الأسئلة إلا شخصية الشاعر (أبو البحر الخطي)، وصديقه الخلوص (أبو الحسن الغنوي).
تحكي رواية (حنين الخرائط) قصة كتاب (في جزائر اللؤلؤ)، أو هي في نفسها ذلك الكتاب الذي يعود للقرن السادس عشر الميلادي إبان تداعي الامبراطورية البرتغالية في الخليج العربي، لمؤلفه رسام الخرائط البرتغالي (روبيرو فرانسيس دي ميلو)، الكتاب عبارة عن مذكرات دونها كاتبها يوم التقى أبو الحسن الغنوي في البحرين.

العمل يغرق قارئه في شعور عميق بالاغتراب، اغتراب يجرفك بشعور الحنين الممزوج باللوعة والحزن والكآبة، أما مطية هذا الحنين فهي الذكرى "إن الذكرى هي عزاؤنا الوحيد في عالم يختفي في السراب" ستعرف وأنت تقرأ مذكرات ذلك الرسام أنها ليست سوى ذكريات الغنوي، وهي نفسها ذاكرة الشاعر أبو البحر، وهي أيضا ذكرى الأكاديمي البحريني المغترب د. السيد كاظم محمد آل شرف الذي ترجم هذا المخطوط، ستكتشف أن المصائر لكل تلك الشخصيات مشتركة، وستختبر هذا الشعور في نفسك أيضا حتى كأن هذه الحالة أصل لدى هذا الكائن، وما دونها مجرد سراب نتلمس حقيقته، فالمترجم بحريني مغترب في كندا، وزوجته فدوى (فلسطينية الأصل)، ويكفي أن ينوه الكاتب لأصلها حتى نقف على أعظم قصة تهجير عن الأوطان عرفها التاريخ المعاصر، أما صديقته (أندريا) فهي برتغالية أجبرت على الغربة في باريس، وحين كان اللقاء الأخير بينهما، انتابتها نوبة الحنين، وهي تعود إلى لشبونة "واصلت التحديق في الفراغ. لقد تغذى حنينها للعودة إلى الوطن منذ طفولتها عبر أحاديث والديها المنفيين في باريس، وها هي تجد نفسها لا تدخل في بلادها الحقيقية وحسب، وإنما ستدخل إليها أيضا من خلال حنين والديها وقصصهما عنها"، فإذا وقفنا أمام الشخصية الرئيسة للكتاب موضوع الرواية (أبو البحر الخطي المغترب من البحرين إلى شيراز)، وجدناها شخصية غائبة حاضرة، سنعرفها من حديث الذكريات لصديقها.
وهذا ما يبرر دفع الزوجة الفلسطينية كتاب (في جزائر اللؤلؤ) إلى زوجها المصاب بالزهايمر بعد أن دفن ابنه في بلاد الغربة، حين طلبت منه إتمام ترجمته، وخاطبته: "الكتاب سيقول شيئا عنا نحن الاثنين"، فالغربة هي الغربة، والمصير هو المصير لكل تلك الشخصيات، والرواية تستنطقهم جميعا في غربتهم، لتفسير ذلك الحنين.
نقلنا الكاتب في هذه المصائر بين (الغربة) و (الاغتراب)، فإذا كان الأول هو ما عكسته حركة الشخصيات في المكان بعدا واقترابا، فإن الثاني هو ما نضحت به تلك الأسئلة الوجودية، والمشاعر المستودعة داخل نفوس تلك الشخصيات.
ورغم أن مفهوم الاغتراب ملتبس أو متعدد بين عدة فلسفات إلا أنك ستجد رابطا يحيلك دائما إلى معنى "أن الإنسان أصبح عاجزا في علاقاته بنفسه ومجتمعه والمؤسسات التي ينتمي إليها حتى استحال انتماؤه نوعا من اللاانتماء والهامشية، بل استحال الاغتراب إلى (......) الفراغ والعجز والقلق والرفض واللامعنى والتمرد والانفصال والعزلة" فالاغتراب يحمل في معناه أن يتجاوز الإنسان ذاته ليعيش خارجها فهو يفقد الاتحاد معها، لذلك صار هذا الوضع مترافقا مع الغربة عن الأوطان قسرا وقهرا أو طوعية، أو الاغتراب داخل الأوطان حين ينسلخ الواحد عن نفسه، وعن مجتمعه، فتتلبسه مشاعر الوحشة، وعدم الأمن، والفراغ النفسي، والمرارة
ليس تناول موضوع الاغتراب في الأعمال الأدبية مستحدثا، فأقدم نصوصنا الشعرية حفلت بالوقوف على الأطلال مثلا، ورسمت طيفا من اللواعج النفسية التي انتابت الشعراء في حلهم وترحالهم، لكن عوامل الاغتراب المعاصر تفاقمت من خلال الأحوال الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وتعددت صوره "فإذا رجعنا إلى النصوص الروائية العربية فإننا نجد ظاهرة الاغتراب ظاهرة متجذرة في البنيات الداخلية لمتون الرواية العربية سواء أكان هذا الاغتراب نفسيا أو اجتماعيا أو مكانيا أو أي نوع من الاغتراب الذي يعاني منه الإنسان العربي، فيتعدد ويتنوع حسب صياغة الأديب"
جاء في سيرة أبي البحر الخطي أنه ولد في قرية من قرى القطيف، فقيرا إلا من عنفوان قبيلته عبدالقيس، ولما لم يكن قادرا على سداد ديونه مع استفحال جشع العثمانيين، وشعوره بالغربة في دياره حيث لا من يقدر موهبته وشعره قرر أن يهاجر في سن العشرين قريته إلى البحرين، وكانت حينها تحت حكم الوزير محمود بن نور الدين، فكانت هجرته تلك أولى خطوات البعد عن الوطن، إلا أنه أخذ خطوة أخرى بعد وفاة الحاكم وحدوث بعض القلاقل فاصطحبه قاضي القضاة إلى شيراز، وهناك اشتد شعوره بالحنين إلى مرابعه التي عاش فيها، واستحضر في ذهنه حياته مع صديقه ومنادماتهم حول الأدب والكتب الشعر، وهذا ما أصاب الغنوي بمرض (الاسْوِداد)، بتعبير الراوي البرتغالي الذي يفسره بأنه: "كلمة برتغالية لا يمكن ترجمتها لأي لغة، لأنها تحمل في جنباتها عدة معان، فهي تعني الحنين ... ولكن ليس تماما، إنه حنين شامل وعام مع شعور باللذة والسرور والكآبة والغربة، هو حنين لا يطاق، لا تبتغيه ولا تستطيع الإقلاع عنه ولا تريد الإقلاع عنه، هو حنين لشيء ما أو شخص ما، ولكنه في الوقت نفسه يتجاوز ذلك الشخص وذاك الشيء".
وفي مواجهة حالة الضياع تلك، شكلت الذكريات المستعادة سلوى للمصابين بهذا الداء، كما حملت هذه الذكريات في طيها إمكانات تساعد على معالجة حالة الاغتراب، يقول الدكتور المهاجر شرف عن ترجمته للكتاب "وإن كنت لا أعرف قيمته التاريخية، أو مدى صحة ما ذكره الكاتب، فهذا ما سأتركه للمتخصصين. إلا أن الشهر الذي قضيته في ترجمة هذا الكتاب، كان خير شفاء لي من الحزن الذي ألم بي، بعد وفاة ابني بمرض فقر الدم المنجلي".
وقد كان هذا مبرر زوجته فدوى الفلسطينية، التي وصفت الذاكرة بأنها شقاؤنا، لكنها ضرورية لنعيش أسوياء، فإن في العودة للماضي إمكانات تعيننا على فهم ما نحن عليه الآن.
وفي قصة الكتاب نفسه سوف تجد أن أبو الحسن الغنوي، المشغول بذكرى صديقه الخطي منذ هاجر إلى شيراز، يبرر نسخه للشعر بالقول: "قد وجدت أن خير وسيلة لأستعيد عقلي، وأنتشل روحي من ضياعها، هي تذكر كل التفاصيل مع صديقي الخطي، فعكفت على نسخ كل قصائده، إلى أن استعدت شيئا فشيئا صفاء ذهني"
في كتاب (الاغتراب في الثقافة العربية) يضع د.حليم بركات المغترب أمام ثلاث خيارات أو بدائل لمواجهة عجزه:
الأول: الانسحاب أو اللامواجهة.
الثاني: الخضوع والرضوخ و الاستسلام والتكيف.
الثالث: المواجهة بالتمرد الفردي أو الجماعي من أجل تغيير الواقع.
وينتهي في دراسته القيمة إلى أن العربي سيميل للخيار الأول لطبيعة الأوضاع والأجواء السائدة، وعدم استعداده للتضحية.
كذلك تميل شخصيات الرواية فعلا لذات الخيار، حيث شكلت الهجرة خيارا مفضلا في وقت من الأوقات، لكن معالجة الكاتب لموضوع الاغتراب لم تقف عند ذلك، خصوصا وأن هناك حركة لعودة بعض الشخصيات - ولو مكانيا - إلى أوطانها، لكن استمرار مشاعر الحنين داخل كل مكان ترحلوا إليه، وصعوبة تفسيرها، أعطى نتيجة قاتمة من صعوبة انفكاك الإنسان عن اغترابه، حين صار الاغتراب وجوديا بالمعنى الدقيق.
لقد عالج الكاتب موضوع الوطن الذي نغترب عنه، أو فيه ... مفهومه، حدوده، وكان مثال الخارطة هو الأليق بهذه المعالجة، حيث يحيلنا عنوان (حنين الخرائط) للمقولة الشهيرة للكاتب ألفريد كروزبسكي
"A map is not the territory it represents, but, if correct, it has a similar structure to the territory, which accounts for its usefulness"
فالخارطة ليست المنطقة أو الإقليم، لكنها صورة متخيلة لها نتعاطى معها لكنها لا تعبر عن الواقع، وبذلك أعاد الروائي تقديم مفهوم الوطن من خلال حوارات الشخصيات، وتساؤلاتها عن وطنها، يقول الأكاديمي مترجم المخطوط "إن شعور الحنين يخترقني، لكنني لا أعرف إلى ما أحن بالضبط؟ فهل أحن لفترة الدراسة بباريس، أم لطفولتي في جدحفص، أم لحياتي هنا حينما كان الأطفال صغارا" ، أما الغنوي فيحكي سيرة صديقه بالقول: "هكذا كان الخطي، في تغزله بالوطن الذي تفجر شوقه إليه ما إن وصل شيراز، فدبج فيه أروع القصائد وأجملها، على أن هذا الحنين لم يقتصر على البحرين فقط، وإنما امتد إلى القطيف أيضا فأيهما كان وطنه الأول، هذا أم ذاك؟".
عنوان الرواية يصور للقارئ هوية الحنين الذي ينتابنا في الاغتراب هو حنين لصورة ذهنية لما يسمى الوطن، لذلك تبقى المشاعر ملتبسة ومختلطة، هي تكتسب أهميتها ليس من الواقع والحقيقة بل من الخارطة التي رسمناها في أذهاننا، تماما كما شرح الغنوي الوطن بالقول: "إن الوطن في القصيدة هو وطن آخر، وطن خالد لا تطوله أيادي الزمن. وفيما النخلة في واقعها تعطي الإنسان الرطب في موسمه فقط، فإن رطب القصيدة يؤكل في كل المواسم صيفا أو شتاء"
وهكذا اختار الروائي الانسحاب والعزلة، ولكنه عالج الأمر نفسيا حين جعل لنا وطنين، وطن عشنا فيه، ووطن نَحِنُّ إليه بعد أن رسمنا له خارطة، ربما تكون تلك صورة قاتمة حين نعرف أن الحنين قدرنا، وأننا نغترب حتى في الوطن الذي خلقناه ورسمناه، رغم أن هذا قد جاء في قالب دفاع نفسي قامت به شخصيات الرواية كتعويض عن الوطن المفقود، الوطن الذي فقد دون عودة لأنه تكوَّن من عناصر يصعب إعادة بنائها من جديد، ومن صورة تشظت ومن المتعذر جمع شتاتها، فلماذا يفكر مغترب بالعودة؟!
رسم الروائي ذلك بشاعرية طاغية وهو يحدثنا عن مشاعر أب يدفن ابنه في كندا "لقد تعاملت مع الموت، توفي والداي وأنا بكندا، وتوفي بعض زملائي، لكن الموت في كل تلك الحالات لم يكن ليمسني كما يفعل الآن، فلا أتذكر أنني قد حضرت جنازة في الثلج. ولا سيما أن تكون جنازة ابني الأصغر الذي ورث عني ذلك المرض اللعين. وهذا ما جعلني أفكر في موتي أيضا: أين أريد أن أدفن؟ هنا أم هناك ؟ .. في الرمل أم في الثلج؟" ، ويمكن التوقف مليا هنا عند صورة الثلج، المغايرة تماما لصورة الوطن الذي عرفه ذلك الأب في زمن ما، كان الثلج ملمحا للجمود الذي انتهت إليه حياة مغترب لم يعد يرى في اللوحة إلا لونا واحدا، بياض يلف الجثمان، ويغلف كل شيء، تلك صورة واجمة وكئيبة فعلا، وهي واحدة من الصور التي حفلت بها الرواية، وقد تحتاج بحد ذاتها وقوفا مستقلا لمقاربة تلك الرموز والدلالات سيميائيا.