الدكتور نـازل وإدارة الكذب

إن المتتبع والقارئ الحصيف إلى أعمال الكاتب الكويتي طالب الرفاعي السردية يقع بين الحين والآخر في سؤال حول الاتساق بين مقولة رولان بارت، وفلسفة الكاتب من حيث ظهوره في النص أو عدة نصوص، وهذه ثيمة كان ولا يزال يشتغل عليها الكاتب، وبرزت في أكثر من عمل إبداعي، وها هو يظهر أيضًا في عمله القصصي الأخير الذي عنونه بــ (الدكتور نازل)، تأخذ اسم الدكتور نازل بوصفه المكوّن الرئيس في جميع القصص. وهي مجموعة قصصية متتالية صادرة عن منشورات ذات السلاسل في الكويت بطبعتها الأولى هذا العام، وليس حضوره هو وحده أو بعض أفراد عائلته الصغيرة، وهذا منحى إبداعي اتصفت بعض أعماله بها.
لكن الكاتب لم يكن حضوره وبروزه في الكتابة الإبداعية فحسب، بل حمل على عاتقه الثقافي منذ بدأ النشر أن يكون المجتمع الكويتي هو الشغل الأول والمحرك الفعلي لأحداث أعماله، إذ تطرق إلى العديد من القضايا الاجتماعية والثقافية والعلاقات الإنسانية والمهنية، تطرق إلى البحر والبر، إلى السياقات الاجتماعية، والتحولات الاقتصادية، وهبة الكتابة عن الذوات والسير التي شاعت في فترة من الفترات، وعن المرأة ودورها في المجتمع وبنائه مع الرجل، ومدى أثر ذلك في البنى المختلفة للمجتمع نفسه.
وأعتقد أن الكاتب استطاع أن يطرق بالمطرق وبصوت عالٍ على العديد من المشكلات والمسائل ذات العلاقة بالإنسان الكويتي الذي يشكل جزءًا من المحيط العربي، وهذا ما جاءت به المجموعة التي تناقش قضايا حساسة جدًا في نسيج المجتمعات العربية، بل العالمية أيضًا، إذ نحاول أن نستقرئ هذه المجموعة وفق السياقات الاجتماعية والاقتصادية وثورة التكنولوجيا، وتعدد التواصل الاجتماعي، وفي صيغ مختلفة أهمها التباهي الذي كان ولايزال يمثله العديد من أبناء عالمنا العربي.

وعلى الرغم من انشغالاته المتعددة في الملتقى الثقافي الذي يقيمه في منزله بحضور ثلة من الكتاب والمبدعين والنقاد والفنانين والضيوف من داخل الكويت وخارجها، ومتابعته المباشرة والدقيقة لجائزة القصة القصيرة العربية منذ ترتيبات للإعلان عن المشاركة، حتى الاحتفال بإعلان الفائز، الإضافة إلى قيامه بدور المدرب على الكتابة الإبداعية في مناطق مختلفة من العالم العربي وغير العربي، ودوره في الجامعة، فضلاً عن الدعوات التي يلبيها للمشاركة في الندوات والملتقيات والمؤتمرات، كل هذا لم يوقفه أو يحد من عطائه الإبداعي في الكتابة السردية القصصية أو الروائية التي كان ولايزال يقدم من خلالهما قراءة نقدية وتحليلية للمجتمع الكويتي في شكل إبداعي مبهر، وبهذا فهو يحمل مصباح التنوير والتطلع إلى مجتمع حداثي في تعاطيه مع مكونات المجتمع وقضايا الإنسان المصيرية.
وقد استطاع طالب الرفاعي أن يكشف عن العديد من القضايا داخل المجتمع الكويتي بلغة سلسة طيعة بعيدة عن التكلف والفذلكة، محاولاً طرح أسئلته تجاه المجتمع ومكوناته المتعددة، وفئاته المختلفة في التخصصات والمجالات والتحديات، وقد وفق كثيرًا في هذه المجموعة التي تكشف عن معرفة دفينة وعميقة بخطر تلك المشكلات التي طرحها، مثل: وجود أفراد غير كويتيين يسهمون في تكوين الشباب الكويتي تكوينًا مَرَضيًا غير سوي، يقدمون لهم ما يطمح إليه الشاب الكويتي في صورة جميلة كمهاود الذي كان يعمل سكرتيرًا لدى والد الدكتور نازل، وما يملكه في بسط الطرق بورود ورياحين وسندس من أجل أن يصل الدكتور نازل إلى تحقيق أحلامه، بالإضافة إلى الصحفيين الذين لا ذمم لهم ولا مبادئ، ولا ضير أن يكتبوا المقالات والدراسات والبحوث، حتى تصل إلى شراء الرسائل الجامعية والأطروحات، طالما كل هذا يسهم في تعزيز مكان الشخص في المجتمع، ويحقق رغباته في الوظيفة والمكانة الاجتماعية والحصول على المال الوفير.

ومن المشكلات أيضًا، غسيل الأموال، والفساد الإداري والمهني والرشاوى التي يقدمها المقتدر والمتنفذ لما يعاني الحاجة، ودور المحتاجين إلى العيش الأفضل في مجتمع بات يهتم بالثراء والوجاهة ومسايرة الأغنياء والوجهاء وأصحاب الأموال الطائلة، وكذلك الشهادات المزورة التي كشفها الكاتب عبر حصول نازل وصديقه عليها من أمريكا على الرغم أنهما لم يهتما بالدراسة بقدر ما كانا اهتمامهما بالملذات الروحية والجسدية والترفيه، ومن القضايا، فقدان المسئولية الأخلاقية تجاه المجتمع والحياة والإنسان، وهنا يشير بصورة غير مباشرة إلى تلك العلاقة المفقودة بين الطلبة في الخارج والجامعات والملحقيات في السفارات، وأثر كل هذا على المجتمع بعد عودتهم إلى بلدانهم، وكذلك المشكلات التي أثيرت في الصحافة الكويتية الخاصة بالذين يقدمون الإعلانات من الرجال والنساء، الأموال الطائلة في حساباتهم البنكية، وطبيعة الترفيه المبالغ فيه، وهي التي فرضت على البعض أن يكون محل استجواب من قبل السلطات الأمنية، يشير الكاتب إلى دور الفانشينستا حين زوج الكاتبُ الدكتورَ نازل من أخت صديقة بلعبة لعبتها الأم ثم الصديق.
وهنا نسأل، هل في كل قصص المجموعة كان د. نازل هو المعني بالحدث ونتيجته. ولكن هل هو شخص واحد في كل هذه المجموعة أم هو مجموعة من أفراد المجتمع يحملون هذه الصفات التي تعددت بتعدد الأهداف والطموحات المتبرعمة عند هذه المجموعة المتظاهرة بالنبل والوفاء والصدق والإخلاص للكويتيين والكويت؟ اعتقد الدكتور نازل ليس شخصًا واحدة بل هو مجموعة من الأفراد، بل هو مجموعات منتشرة على أرض الكويت. إن هذه الشخصيات المتعددة التي جمعها الكاتب في اسم واحد ذات دلالة عميقة حين اسماه (نازلاً) ليؤكد أن الكويت كانت أرضًا طيبة خالصة ليس فيها إلا المحبة والصفاء والعمل الصادق، ومساعدة الآخرين أفرادًا ودولاً ومؤسسات تعمل من أجل الإنسانية، لكن للأسف هناك جماعة نزلت لنا من علوها الفاسد لتنخر في جسد هذا الوطن الهادئ على شواطئ الخليج، هؤلاء الذين جاءوا ليفسدوا الود والمحبة والنقاء ويؤثروا على أبنائه، فهم من العرب والأجانب الذين تمركزا في الوظائف داخل المؤسسات العامة والخاصة، مؤسسات الأفراد والعائلات، وفي المؤسسة الأهم، هي الأسرة، أي عمالة المنازل، بمعنى نجد في كل مكان الدكتور نازل، الطبيب نازل، المدير نزل، صاحب العقارات والمؤسسات نازل، كما نجد مهاود والصحفي والمتقاعد، الراغب في العمل، ولكن في الوقت نفسه نجد الرافض شراء ذمته وجهوده وعمله، كل هؤلاء هم أفراد المجتمع، حاول الكاتب أن يشكلهم وفق طبيعة النص السردي الذي نجح فيه أيما نجاح.
لقد أشار الكاتب من خلال حديث نازل إلى الخوف على الكويت من المصريين؛ لانهم باتوا في كل وظائف الدولة من المهن الكبيرة والحساسة إلى المهن الصغيرة والبسيطة، والخوف من الفلبينيين على العائلات الكويتية بسبب انتشارهم الزائد في العمل داخل المنازل من عاملات وطاهيات وسواق ومربيات، والخوف على الكويت من الهنود؛ لانهم موجودون في كل مكان من المستشفى إلى العمالة المهمشة في الأسواق، والخرف من نتائج مسايرة الشباب والشابات في الكويت للماركات العالمية والتنافس فيما بينهم بصورة جنونية، فيقول أنه يخاف على الكويت من الكويتيين، والخوف من الكتاب والصحفيين أيضًا في الوقت الذي يعمل الدكتور نازل على تحقيق كل هذه المخاوف .
إنه أي الدكتور نازل المتعدد هو رجال في رجل واحد، له قدرة مالية كبيرة استطاع من خلالها، وما لديه من التواءات متنوعة ومتعددة بحسب المجال والموضوع. فيستطيع اقناع الناس بما يريد فعله مهما كان الثمن. هكذا استغل الكفاءات المهنية والعلمية والصحفية والادارية والعلاقات الاجتماعية من أجل أن يكون هو الرقم الوحيد في المجتمع ليشار له بالبنان داخل بلده وخارجها، وبسبب الخبث والكذب، الذكاء الذي يتحلى به الدكتور نازل، فهو لم يقرر أي فعل أو أمر إلا بعد أن يقرأ الواقع المعيش، ويبني دراسته لتحقيق طموحاته، فيؤسس الشركات والمؤسسات والإدارات، والصحافة الورقية والإلكترونية، ويمارس دور المصلح والمهتم بالمجتمع، كل هذا من أجل تحقيق المكانة الاجتماعية، إذ يقف ضد أي مصلح أو مخلص أو مهتم بدوره في المجتمع، بمعنى إن الدكتور نازل لا بريد شخصًا ناجحًا في المجتمع الا هو، وإن كان خاليًا من المضمون والدلالة، فهو يغضب من بيان اخطائه في الدراسة والعمل والحياة، ويغضب من نجاح الآخرين، يغضب حينما يثني مسئول على موظف، ويضج توترًا من الدراسة الحقيقة، ويغضب حين يرفض الصحفي كتابة مقال باسمه هو لا باسم الصحفي نفسه.
ومن تلك اللعب السردي التي وظفها الكاتب مفهوم الكذب، هذه إن كانت قيمة أم صفة أم حالة مرضية، فقد أتى بها في المجموعة تحت رغبة الدكتور نازل بتشكيل إدارة جديدة في شركته تحت مسمى إدارة شئون الكذب الدولي، وبعد قراءة هذه الجملة تريد إنهاء القصة المرتبطة بها لتعيد التفكير في طبيعة هذه الفكرة الخارقة التي أتى بها الكاتب، وإذا كنا نعرف أن الكذب صفة مذمومة عند جميع الناس حتى الذين يستخدمونها في حياتهم اليومية، فهي لا تخرج عن سياق سرد روايات أو حكايات غير صحيحة سواء بغرض التباهي والتفاخر للشخص نفسه، أم بغرض الانتقاص من أطراف أخرى، وربما يقصد هذا هدفًا آخر، المهم أن فكرة الإدارة لو نظرنا لأنسفنا من خلالها سنرى أننا كلنا نمارس الكذب على أنفسنا وعلى الآخرين القريبين والبعيدين، الذين نعرفهم أو الذين لا نعرفهم، وأقل تقدير ننطلق من أن الكذب هذا أبيض، وغير مضر، كم واحد منا كذب حين يتأخر عن موعد ضربه مع صديقه، أو عمله، كم واحد منا كذب في الإجابات عن بعض الأسئلة، بمعنى نجيب عن أشياء خلافًا للواقع الفعلي والحقيقي لما نحن نتحدث عنه، وهذا ما يراه القارئ في نصوص المجموعة تلك الصفة التي يتفوه بها الدكتور نازل بغرض حماية توجهاته وتطلعاته وبالوسائل التي يراها تحقق أحلامه حتى لو كانت على حساب المجتمع والبلد. لكن المؤسف حقًا، أن توظيف صفة الكذب مع الوقت والتاريخ تصبح حقيقة يصدقها الجميع، مثلما بات اسم الدكتور نازل يحمل صفات الرجل المغوار الشهم المضحي من أجل الآخرين، الباحث عن تنمية الاقتصاد، الداعم للشباب.
وإذا كانت هذه الإدارة المعنية بالكذب فعلا موجود أفعالها وأشكالها ونتائجها وإن لم تشكل حرفيًا أو على أرض الواقع، فإننا لا نبعد المنجز الإبداعي عن دخول صفة الكذب التي تتغلغل داخل النصوص، وبين الجمل والعبارات، وبخاصة أن التخييل الذي يتكئ عليه الكاتب لا يمكن التخلي عنه، فهو تقنية من تقنيات الكتابة الإبداعية، وهنا هل الكاتب يدعونا إلى التوقف قليلاً ومراجعة الكتابات الإبداعية التي نخرها التخييل الضعيف وأفسد الذوق العام، ونتج عن كل هذا ما يمكن أن نطلق عليه الكتابة الكاذبة التي غرضها السوق والشهرة؟!
نجح الكاتب في كشف الكثير من ممارسات كانت وربما لا تزال في حياة المجتمع، وكأنه يدعو إلى الاستمرار في معالجة كل هذه الثغرات التي أوجدها بعض أفراد المجتمع الذين لا يشكلون مشهدًا مهما أو موقعًا حساسًا على الخريطة الكويتية، لكن ظهور شخص فاسد لا محال يعم بفساده المكان، أي أن محاولات الكاتب لكشف زيف المجتمع لم تكن محض صدفة أو رغبة في التشهير والفضح، أو من أجل إبراز صورته وإشهار اسمه أو الصعود من خلال هذه القضايا، بل كان ذلك ومن قبله أعمال أخرى قدمها من أجل تصحيح الأخطاء، أو أخذ الصالح من الموروث أو المشهد العام لبناء المزيد وتحقيق الأحلام.
ومن جماليات النصوص هذه، وهذا ليس غريبًا على من كان يقرأ للكاتب أعماله الإبداعية، وهو تميزه بثيمة مهمة في السرد الحديث، وهي وجوده باسمه في مواقع مختلفة تكشف عن رؤيته تجاه ما يكتب وينتقد، ولكن الفنية والجمالية التي يوظفها الكاتب لا يجعل ثغرة في الربط بين حضور الكاتب في النص الذي لا يتعارض البتة بموت المؤلف، وبين النص ذاته الذي يأخذك إلى التماسك في البناء والتركيب واللغة. شكرًا لك أيها المبدع على جهودك الإبداعية والثقافية وحرصك الشديد على بلدك وأفراد مجتمعك.