الرأي العام البغل

من بوابة الحواس الخمس يطل الرضيع على العالم الخارجي، حيث يتعلم أول أبجديات الحياة بدءأ بصورة أمه وأبوة وفي الأثناء يصيخ السمع فيما يلقى إليه من كلمات مثل: ماما، بابا ومع تباشير هذه المسموعات ترتسم في ذهنه أساسيات اللغة، حيث الكلمات مشمولة بـ (اللكنة) المسموعة والتي تظهر في منطوقه، وتحدد منشأه وهويته الحقيقية مستقبلا، وهكذا تدريجيا تبدأ أعضاء حواسه الأخرى في رسم شخصيته، وتحديد رغباته، و نوع طعامه المفضل وصولا إلى الجماليات التي تراها عينيه، والمسموعات التي تطرق أذنيه، ومن ثم رسم صورة لهذا العالم في ذهنه لا تتطابق مع أي صورة أخرى لشخص آخر وهو في خضم هذا البحر الهائج من التلقليات الحسية بأشكالها المختلفة، لا يعلم أنه وضمن ملايين البشر الآخرين يسبحون في ركب ماكينة الإعلام العملاقة والتي غزت كل جوانب حياتنا على كافة الأصعدة الاجتماعية والصحية والدعائية والسياسية وغيرها، والتى جعلت من الفرد العادي ككبش في قطيع كبير يخضع لما يعرف بديناميكية التفكير، فالدعاية تفكر عنا وتقولب أذواقنا والراديو والقنوات التلفزيونية وأجهزة التواصل الاجتماعية وما أكثرها هذه الأيام تبوب آراءنا السياسية، والتلفزيون يصنف معلوماتنا العامة، ونحن لسنا سوى كبش في قطيع كبير طيع القيادة، وهذا ما حدا بالأديب سعيد تقي الدين في إطلاق عبارته المشهورة (الرأي العام البغل).
وللإعلام المرئي والمسموع دور كبير جدا في رسم وبناء المقاييس والمعايير الخاصة وصولا إلى صناعة وقولبة أذواقنا المختلفة، والكثير منا مازال يتذكرهذه الديباجة في وصف المرأة المؤملة (بيضاء ومتينة ومُدرّسة) هذا الوصف هو أحد مقاييس الجمال في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، إنه إعلان شفوي كانت تطلقه النساء الخاطبات في بعض المجتمعات البحرينية لترغيب الرجال، وكان له رواج كبير عند المتقدمين للزواج إلا أنه على نقيض مقاييس الجمال في عصرنا الحاضر.
منذ أيام عُرض على إحدى قنوات الأفلام الأجنبية (Shallow Hal, 2001)، (هال الضحل)، أو السطحي التفكير، وهو من إخراج (الأخوين مارلي)، والفيلم يحكي قصة شاب اسمه هال قام بدور البطولة (جاك بلاك)، كان يعاني من مشكلة كبيرة وهي بحثه مع صديقه موريسيو. قام بدور البطولة (جاكسون الكسندر)، يتحدث الفيلم عن الجمال في أجساد النساء الفاتنات الرشيقات، ولكن كانت كل مغامراته في البارات وغيرها تنتهي بفشل ذريع لسبب بسيط وهوأن النساء ربما عكس الرجال في هذا الجانب فهن قد ينجذبن بشدة للشاب ذو الشخصية الجذابة والتي كان نصيب هال فيها يكاد يكون معدوما،إنها حال غريبة جدا إذ استطاع المخرج بذكاء شديد أن يظهرعدم التناغم في العلاقات الغرامية التي قد تبوء بالفشل، فإذا كان الرجل سطحي التفكير، وإن كان على قدر كبير من الوسامة في شكله وهندامه، فهو على النقيض إذ قد يكون أحدهم متوسط الوسامة ولكنه جريء ومثقف وذو شخصية جذابة تتخطى كل العقبات وتصيب الهدف من اللقاء الأول، أما إذا اجتمعت الوسامة والشخصية الفذة في الرجل الواحد، هنا قد يطلق عليه (دون جوان).

بالعودة إلى هال، وبعد أن ضاقت به السبل للفوز بقلب إحداهن التقى، بـ توني روبنز (هذا اسمه في الحقيقة) وهو مدرب أمريكى ويتقن التنويم المغناطيسي، ورغم أن الأمر قد تم على عجل بعد أن علقا الاثنان في المصعد، وفي وقت الانتظار لإصلاحه استطاع هال ببساطته أن يوصل مشكلته إلى الخبير توني والذي قام لاحقا بتنويم هال مغناطيسيا بطريقة جعلته يسقط جماليات الشخص الداخلية لأي شخص، على شكله الخارجي فأصبح يرى الناس على غير ما هم عليه من الخارج، ففي الوقت الذي ترسم لنا فيه الموضة والسينما والإعلام على أن الرشاقة المفرطة أحد أهم المعايير الرئيسية لجمال المرأة، أدخل المنوم في عقل هال بطل الفيلم مقاييس الجمال في أشكال مختلفة، وعندما التقى مصادفة بروزمري (الفائقة السمنة)- قامت بدور البطولة عن تلك الشخصية (جونيث بالترو) - وابنه رئيس الشركة انبهر بها، وكأنه يرى ملاكا جميلا بحيث أسقط المخرج كل جمالياتها الداخلية من طيبة ورقة ونحو ذلك على شكلها الخارجي واستعار للشكل الخارجي صورة قريبة من ذهن المشاهد (وبالطبع مقتبسة من أرشيف عارضات الأزياء) فجاءت موافقة لمقاييس المشاهد المعدة سلفا من ماكينة الإعلام فأصبح يرى روزماري الفتاة الرشيقة الوديعة طيبة القلب والجميلة، أرق الناس وأجملهم قلبا وقالبا.
إن هذا الأمر من الهيام بروزمري، لم يسرعلى النحو الذى رأى فيه هال محبوبته من منظوره الخاص، إذ لم يستقم الأمر طويلا فاستهجان الناس لمنظر الثنائي هال وروزمري أفسد على صاحبنا هال كل متعة، وذلك لعدم إيمان الكثير من الرجال بحق روزمرى فى أن تكون عشيقة للشاب الوسيم هال مما جعله في حيرة من أمره، حتى والد الفتاة رأى في تقرب هال من إبنته وهو رجل ثري تزلفا وطمعا في مركز في شركته. الأمر الآخر هو عزوف هال عن استقبال صديقته وجارته القديمة رغم ما تتمتع به من جمال ملفت.
مما تقدم أرى كمشاهد أن المخرج نجح بذكاء في قلب الصورة رأسا على عقب ولكنه مجاراة للتصور العام للمشاهد، إذ أظهر الوجه الآخر لروزمرى من مقاييس عالية وحديثة جداً أعني بذلك الممثلة جونيث بالترو والتي ليست بالضرورة من مقاييس البعض بمعنى لم لا تكون روزمرى الفتاة المتوسطة الجمال طيبة القلب؟ ولماذا هذا التطرف في اختيار بديلة مفرطة السمنة ؟! وهنا وقع المخرج فى المحظور فمقاييس الجمال ليست منوطة بالشكل الخارجي، في كل الأحوال وهي ليست دائما على هذا النحو من التطرف والمغالاة، أجل فنحن لا نملك صورة لعبلة عشيقة عنترة بن شداد، ولا كيف تبدو جولييت من منظور روميوـ أو ليلى من منظور قيس بن الملوح، وما أدرانا كيف هي ليلى؟ فلعلها بيضاء ممتلئة الأرداف، وبالمثل عبلة فلعلها سمراء نافرة ا