الشرق الأوسط بين تصاعد الكراهيات و الصراعات القاتلة

«كراهيات منفلتة.. قراءة في مصير الكراهيات العريقة» عنوان أحد أبرز كتبه الأخيرة، كتاب وضع خلاله تلك الصورة الحاضرة الآن في منطقتنا، الشرق الأوسط، التي وصفها خلال حوارنا معه بأنها منطقة تمر بمرحلة فارقة واستثنائية منذ انتفاضات «الربيع العربي» في العام 2011، بل يمكن القول إن المنطقة اهتزت في العام 2003 مع الإطاحة بنظام صدام حسين في العراق ، إلا أنها انفجرت عن بكرة أبيها في العام 2011. صارت المنطقة برمتها تعيش حالة معممة من الفوضى المجنونة والتدمير. الكلام هنا ليس لي بل لأحد أبرز المشتغلين في حقل الدراسات الثقافية، هو الصديق الدكتور نادر كاظم، تحدثنا معه عن الكراهية ومآلاتها، لكنه تحدث في كتابه أيضاً، وعبر فلسفة السؤال، عن تاريخ تلك الكراهيات، فكان سؤاله «هل أصبحنا على أعتاب مرحلة جديدة في تاريخ الكراهية، مرحلة تتصدر فيها الكراهيات المصطنعة على حساب الكراهيات الحقيقية؟ يمكن الإجابة بالإيجاب - يقول الدكتور نادر كاظم - إلا أن هذا لا يعني أن الكراهيات الحقيقية سوف تنقرض، أو أن أصحاب الكراهيات الحقيقيين والصادقين مع أنفسهم سوف يختفون نهائياً من المشهد. بل على العكس من هذا - كما يرى - فتكتيكات الكراهية المصطنعة تعتمد أساساً، على الكراهيات الحقيقية، وهي تتوسل، في الغالب، بأصحاب الكراهية الحقيقيين «أو من يتظاهرون بأنهم كذلك» الذين يتم تجنيدهم بطرق خفية، وأحياناً بطرق غير مباشرة وعبر وسطاء عديدين وباساليب لا تختلف كثيراً عن أساليب تجنيد العملاء السريين في العالم السري للمخابرات. وعلى هذا، فقد يحصل أن ينخرط أصحاب الكراهية الحقيقيون في لعبة إنتاج الكراهية وتداولها وهم لا يعرفون، أساساً،

من يقف وراء هذه اللعبة ومن يحرك خيوطها ويضبط إيقاعها ويستفيد من عواقبها وانعكاساتها، وربما كانوا لا يعرفون حتى أنهم مجرد أدوات مستخدمة لمآرب أخرى وفي خدمة لاعبين آخرين» . في هذا السياق، ورداً على الفرضية التي ألبسناها صيغة السؤال، حول ما إذا كان ما تشهده منطقة الشرق الأوسط، من بزوغ أو بروز لظاهرة «التطرف» من خلال ما يحدث الآن من صراعات قاتلة واحتراب وتصاعد لتلك البشاعة لأفعال وأعمال الفتك والتوحش، هي نتاج تلك «الصناعة» التي ظهرت في تصريحات هيلاري كلينتون الأخيرة، حول صناعة أمريكا لتنظيم القاعدة من خلال استثمار دوائر الفقر الفكري في المنطقة، وتسخيرها لمصالح وغايات استراتيجية أمريكية صرف، وما إذا كانت بعض التنظيمات كـ «داعش» و«النصرة» وما يسمى «بالدولة الإسلامية» صناعة أخرى مماثلة. أجاب: في ظل هذه الظروف والاضطراب العام والفوضى في المنطقة، يكون وجود ظواهر مثل «داعش» وأخواتها أمرا محتملا وواردا، فأساساً أنت في منطقة موجودة على كف عفريت من الكراهيات الطائفية العريقة. كما إن الفرضية التي تقول إن «داعش» ومثيلاتها صناعة استخباراتية إقليمية ودولية وهدفها تفكيك أو إضعاف دول بعينها. ربما كانت هذه الفرضية صحيحة - يقول الدكتور نادر - لكني أتصور أنها ليس سليمة بالكامل. نعم، قد تكون النواة الأولى والصلبة لهذه التنظيمات مصطنعة من قبل جهات ما، إلا أن حجم هذه التنظيمات يجعل المرء يتردد في قبول تلك الفرضية على علاتها.

هل يمكنك أن تضعنا أمام مفهوم «الكراهيات» الذي هو موضوع كتابك المثير للجدل « كراهيات منفلتة.. قراءة في مصير الكراهيات العريقة» وهي - أي الكراهيات - واحدة من النوازع البشرية العنيدة والعدوانية، بحسب توصيفاتك لها، مستثمراً ما قاله البرت أنشتاين وفرويد صاحب كتاب «الحضارة وإحباطاتها»؟ نعم، أنت تشير إلى تلك المناظرة التي جرت بين ألبرت أنشتاين وسيغموند فرويد في العام 1932 والتي كان موضوعها يدور حول الحرب وأسبابها وكيفية الخلاص من تهديدها. ذهب أنشتاين في المناظرة إلى القول بأن الحروب ترتكز على رغبة غريزية قوية متجذرة في نفوس البشر، تلك هي غريزة الكراهية والتدمير والعدوانية. وهذه غريزة كامنة ويمكن استثمارتها بقوة في أية لحظة. وهذه القناعة هي التي حملت أنشتاين على اختيار فرويد كشريك له في هذه المناظرة الفريدة. وبالنسبة إلى فرويد فإن الكراهية (وهي المشاعر المتحدرة مباشرة من الغريزة العدوانية) ترتكز على ميول ونوازع غريزية عند الإنسان، وهي ميول ونوازع لا يمكن اقتلاع جذورها، ولا يمكن قمعها بصورة كاملة، ولهذا فلا جدوى من محاولة التخلص منها. وكل ما يستطيع البشر عمله تجاه هذه الميول والنوازع الغريزية هو محاولة تصريفها في قنوات أخرى غير قنوات الحروب والصراعات المدمرة. وعلى هذا، فالحروب لم تكن سوى ضرب من ضروب التصريف العنيف للكراهيات القاتلة والنوازع العدوانية عند البشر. كان البشر يتبادلون كراهياتهم العنيفة من أبعد الأزمان ومازالوا يتبادلونها إلى اليوم، لكن هذا لا يعني أن شيئا لم يتغيّر في خطاب الكراهية.

فندت في كتابك هذا الطرح اليوتوبيا لبعض أصحاب الفكر الحداثي والشيوعيين، حول إمكانية أن نكون في عالم بلا طبقات وبلا عداوات وبلا صراعات وبلا كراهيات. فعلى الرغم من تقدم الزمن فإن العداوات والتناحرات والكراهيات والأحقاد التي وصفتها بالعنيدة بين البشر لم تختف بل ما زالت الكراهيات المنفلتة إلى اليوم قادرة على الاستفزاز والجرح والإيذاء، كأن كلامك هذا يشي بأن شرك تلك الكارثة يكبر ويتضخم يوماً بعد يوم على حساب مفاهيم الأنسنة، ولا نعرف ما يتعين علىنا أن نفعله حيالها؟ أنت تعرف أن بعض الحداثيين كانوا يراهنون على أن التقدم المطرد في التحديث وقيمه كالفردانية والعقلانية سوف يُتوّج، في نهاية المطاف، بـ «ثقافة كونية» تنسحب، من على مسرحها، كل القوميات والطوائف، وتتراجع، على إثر ذلك، كل العداوات والكراهيات العريقة التي ارتبط وجودها بوجود هذه القوميات والطوائف. وفي نسخة أخرى مختلفة من هذه اليوتوبيا الحداثية، كان اليسار الماركسي التقليدي قد راهن على أن «موقف العداء بين الأمم» سيزول مع إلغاء الملكية الخاصة وزوال الطبقات. ومن منظور هؤلاء فإن البروجوازية مهّدت الطريق لتراجع التعصّبات القومية والتناقضات بين الشعوب، على أمل أن ينتظم كل هذا في مسار ينتهي بانتصار البروليتاريا. وهو الانتصار الذي سيضع حداً نهائياً لهذه العداوات والتعصبات والتناقضات بين البشر. إلا أن هذا الانتصار لم يتحقق كما بشّرت به هذه اليوتوبيا، والعداوات والتناحرات والكراهيات والأحقاد العنيدة لم تختف، بل مازالت الكراهيات المنفلتة إلى اليوم قادرة على الاستفزاز والجرح والإيذاء كما تعرف وكما نشاهد، بل إنها ازدادت قدرة على ذلك مع زوال عزلة الجماعات القومية والطائفية، واهتزاز فضاءاتها الخصوصية المغلقة، وتقدم الاتصالات بحيث صارت أخبار الكراهيات وحوادثها تنتقل بسرعة فائقة، وصارت تستحثّ معها، في كل مرة، انعكاساتها الخطيرة. وكأن «التسهيل اللامتناهي لوسائل المواصلات» الذي ابتدعته البروجوازية، وراهن علىه الماركسيون فيما بعد، قد بدأ يفعل فعله ولكن بطريقة عكسية. فالتعصب والتقوقع القوميان لم يتراجعا، وموقف العداء داخل الأمة وبين الأمم لم يختف، والكراهيات بين البشر لم تهتزّ. بل إنها صارت تتغذّى على هذا «التسهيل اللامتناهي لوسائل المواصلات» والاتصالات، وتتوسّل به، بل تطوّعه لصالحها. وأنا أرجع ذلك إلى العزلة وحالة عدم التواصل والانفتاح بين الجماعات. فانتعاش الكراهيات بين البشر إنما كان يستمد قوته من العزلة الجغرافية ومن التقوقع والانكفاء القديمين بين الجماعات. وقد تمكّنت الجماعات، في ظل هذه العزلة، من إنتاج كراهياتها وتداولها دون تكاليف باهظة. والسبب في ذلك أن العزلة كانت تؤمّن الأجواء المناسبة لانتعاش الكراهيات داخل كل جماعة. وبناءً على هذا، يمكن أن يستنتج أحدنا بأن زوال العزلة سيكون نتيجة طبيعية لانفتاح حدود الجماعات بفضل «التسهيل اللامتناهي لوسائل المواصلات» والاتصالات. وبهذا النوع من التواصل المكثّف ستزول العزلة، وتختفي، على إثر ذلك، الكراهيات العريقة. لكن الذي حصل لم يكن كذلك. فالتواصل المكثّف أصبح حقيقة بفضل التقدم المذهل في وسائل المواصلات والاتصالات والإعلام، إلا أن العزلة مازالت قائمة، والكراهيات العريقة مازالت منتعشة. فالجماعات اليوم تعيد إنتاج عزلتها وكراهياتها بالاستعانة بهذه الوسائل. وإذا كان من شبه المستحيل تأمين العزلة المكانية القديمة في عالم جرى عولمته، وأصبح بمثابة «قرية كونية»، ومشبوكاً من أقصاه إلى أقصاه بشبكات اتصال معقدة ومتكاثرة، فإنه من غير المستحيل، في المقابل، أن تقوم الجماعات بإعادة إنتاج عزلتها الافتراضية والمتخيلة والتواصلية، وهي تفعل ذلك، اليوم، وبالتوسّل بشبكات الاتصالات المعقدة والمتكاثرة. فالجماعات قد تتساكن وتتجاور في المكان، إلا أن هذا لا يعني، بالضرورة، أنها تتعايش وتتواصل فيما بينها، وبدل العزلة المكانية أصبحنا أمام عزلة تواصلية.

الوجه الآخر لمفردة الكراهية هو التطرف، وبتعبير أدق ربما هونتاجها، وإذا سمحت لي سأجر الحديث باتجاه ما يحدث الآن في الشرق الأوسط من صراعات قاتلة واحتراب وتصاعد لتلك البشاعة لأفعال وأعمال الفتك والتوحش، ولنا في ما يحدث على يد بعض التنظيمات كـ «داعش» و«النصرة» وما يسمى «بالدولة الإسلامية» مثالاً على ذلك. هنا، وإذا ما أردنا إعمال مشارط النقد والتفكيك لتلك الظاهرة «التطرف»، وبوصفك أحد أهم المشتغلين في حقل الدراسات الثقافية، سيكون السؤال، كيف تقرأ تلك الظاهرة؟ وما الذي جعلها تتسع بهذا الشكل الخطر في منطقتنا، وهل هناك من يعمل على تخليقها وتحركيها؟ وما هي مبرراتها ومنطقها الداخلي ومنطلقاتها النظرية و«الفكرية» وسأضع مفردة الفكرية بين قوسين كون الفكر فعل مجاوز لكل ما يصدر عن دائرة التطرف، أو ما يبرر ما ينتج عنها؟ تمر منطقة الشرق الأوسط بمرحلة فارقة واستثنائية منذ انتفاضات «الربيع العربي» في العام 2011، بل يمكن القول إن المنطقة اهتزت في العام 2003 مع الإطاحة بنظام صدام حسين في العراق، إلا أنها انفجرت عن بكرة أبيها في العام 2011. صارت المنطقة برمتها تعيش حالة معممة من الفوضى المجنونة والتدمير. لن أقول إنها حالة غير مسبوقة لكنها استثنائية وخطيرة وتهدد كيان الدول الهشة والمركزية في المنطقة من العراق إلى سوريا إلى ليبيا إلى اليمن إلى مصر التي بدأت تستعيد شيئاً من عافيتها بالاستعانة بأدوات الحكم السابقة المرتكزة أساساً على سلطة العسكر والجيش. وهو الدور الذي يستعيده الجيش السوري، ويحاول أن يستعيده الجيش العراقي الطري بشق الأنفس. بمعنى أننا على أعتاب مرحلة جديدة وقديمة في الوقت نفسه، جديدة لأن ثمة تغيرات كبرى جرت ومازالت تجري في كيان الدولة وعلاقات القوة والقوى السياسية التقليدية في المنطقة، وقديمة لأن الجيوش العربية التي قيل إن ثمة مؤامرة لإضعافها تحت عنوان «الربيع العربي»، في طور استعادة قوتها وحضورها وحتى حكمها القديم. والأيام حبلى! في ظل هذه الظروف والاضطراب العام والفوضى في المنطقة، يكون وجود ظواهر مثل «داعش» وأخواتها أمرا محتملا وواردا، فأساساً أنت في منطقة موجودة على كف عفريت من الكراهيات الطائفية العريقة، وأمام دول هشّة تستمد كل قوتها من قوة الجيش والبوليس وأجهزة الاستخبارات ومن اللعب على وتر التناقضات الجماعية بين الطوائف والقوميات، كل ذلك من أجل تأمين دوام الهيمنة والإمساك بمقاليد الحكم. بمعنى أن هذه الأنظمة كانت ومازالت مستعدة ومهيأة لأن تفعل أي شيء من أجل هذا الهدف. وعلى هذا فمع اهتزاز قواعد الحكم المعهودة (الجيش والبوليس والاستخبارات) أو حتى انهيارها فالنتيجة هي انفجار تلك التناقضات في صورة حروب أهلية دموية؛ لأن هذه الأنظمة لم تسمح بتكوين المؤسسات ولا التقاليد السياسية والمدنية التي يمكنها أن تتولى تسيير شؤون الدولة في ظل غياب هذا النظام أو ذاك.

. وهذا ما جعل الجميع، أفراداً وجماعات، مهيّئين في هذه الأنظمة لهذه النتيجة الدموية، وكأننا أمام فتيل جاهز وقابل للاشتعال في أية لحظة. ومن ثم فهذه الجماعات والتنظيمات هي نتاج هذه الحالة من الاستعداد الطويل الذي لا يبدو (وربما لم تكن هذه الأنظمة الدكتاتورية تسمح بذلك) أن التطلعات الإصلاحية والقومية واليسارية والتحديثية قد خفّفت من حدتها طوال هذه العقود الطويلة المنصرمة. طبعاً هناك فرضية تقول إن «داعش» ومثيلاتها صناعة استخباراتية إقليمية ودولية وهدفها تفكيك أو إضعاف دول بعينها. ربما كانت هذه الفرضية صحيحة لكني أتصور أنها ليس سليمة بالكامل. نعم، قد تكون النواة الأولى والصلبة لهذه التنظيمات مصطنعة من قبل جهات ما، إلا أن حجم هذه التنظيمات يجعل المرء يتردد في قبول تلك الفرضية على علاتها، فكيف يمكن تأمين آلاف مؤلفة من البشر المصممين على الموت والقتل؟ بمعنى أن هناك قابلية لمثل هذه الظواهر في المنطقة بدليل أن أعداداً كبيرة كانت تتنادى للالتحاق بهذه التنظيمات من معظم أقطار العالم. وهؤلاء لم يكونوا، بالضرورة، ومرتزقة وعملاء، بل هم بشر صدّقوا خطاب هذه التنظيمات وآمنوا بروايتها وتفسيرها لما يجري في منطقة الشرق الأوسط تماماً كما آمنت آلاف مؤلفة لرواية المجاهدين الأفغان وتفسيرهم في الثمانينات. لقد تم كل ذلك بتعاون استخبارتي إقليمي وأمريكي لمواجهة الاتحاد السوفياتي آنذاك، هذا صحيح، ولكن الصحيح كذلك أن البشر الذين كانوا يلتحقون بـ «المجاهدين» زرافات زرافات، كانوا يذهبون وهم مقتنعون بعدالة قضيتهم وقدسيتها، ومن هنا يمكن فهم تصميمهم واستعدادهم الكبير للموت في سبيل قضيتهم. فنحن في الحقيقة أمام ظاهرة فيها من الاصطناع بقدر ما فيها من الحقيقة، وأن هذه لا تنفي تلك بالضرورة. وأتصور أنه ينبغي أن نفهم هذه الظاهرة في هذا السياق. ومع هذا فإني أتصور أن ظاهرة مثل «داعش» ظاهرة استثنائية وعابرة ولا تملك مقومات البقاء والاستمرار.
كنت قد تحدثت معك منذ أيام قليلة، عن الطرح الذي يتحدث عن «التنظيمات المتطرفة كصناعة» في هذا السياق، أذكر بأن البروفيسور الفرنسي جيل كيبل وهو أستاذ العلوم السياسية في معهد الدراسات السياسية بباريس والمتخصص في دراساتالشرق الأوسط ومنطقة البحر الأبيض المتوسط، قد وضع في العام 2004 كتابه «الفتنة.. حروب في ديار المسلمين» الذي بشر من خلاله بالحروب في صميم الإسلام، متحدثاً عن استراتيجيات الجهاد المقدس لدى تلك التنظيمات في دار الإسلام لمقاتلة «العدو القريب» المتمثّل في الحكام الفاسدين في ديار الإسلام، وقد احتموا بالغرب الذي يسيطر على العالم، بعد أن يفرغ من قتال «العدو البعيد» المتمثل في الكافر الغربي، كيف يمكن قراءة تلك الأطروحة من الناحية العلمية، خصوصا وإن كثيرا من المراقبين لمثل تلك الأطروحات قد اعتاد وضعها موضع الشك، وربما كان أبرز من عودنا على ذلك هوالمفكر الأمريكي نعوم تشومسكي وأذكر بأنه حين أصدر صامويل فلبس هنتنجتون كتابه «صدام الحضارات» وأعقب هذا الصدوروقوع أحداث 11 سبتمر المؤسفة، قلل من أهمية الكتاب من الناحية العلمية ووضعه ضمن الاطروحات الاستراتيجية التي تمهد لحدوث شي ما، كما إن أغلب ما يصدر عن هذه المعاهد ومراكز الدراسات حول منطقة الشرق الأوسط دائم التحقق، هل يمكن رد هذا الشك، أيضاً؟ نعم، هناك، بالتأكيد، الكثير من الباحثين و«الخبراء» والمعاهد ومراكز الأبحاث التي تقدم خدماتها مدفوعة الأجر لصالح جهات حكومية وغير حكومية عديدة من وزارة الخارجية الأمريكية حتى الخارجية الفرنسية. وأذكر أني التقيت، قبل سنوات، بباحثة فرنسية من طالبات جيل كيبل كانت في زيارة إلى منطقة الخليج لحضور اجتماع لسفراء بلدها في المنطقة، وقد كانت موجودة لأغراض الاستشارة بحكم أنها متخصصة في منطقة الخليج. وبالمناسبة فهذه الباحثة كانت متخصصة في شؤون عرب 48 في إسرائيل في بادئ الأمر، إلا أنها حوّلت اهتمام إلى منطقة الخليج أخذاً بنصيحة جيل كيبل نفسه الذي أشار علىها بتحويل اهتمامها إلى منطقة الخليج بحكم أن هذه المنطقة، والصراع الشيعي / السني والإيراني / العربي تحديداً، ستكتسب أهمية كبيرة في السنوات المقبلة، وسيحلّ هذا الصراع محل الصراع العربي / الإسرائيلي! بمعنى أن هناك باحثين بل مراكز أبحاث أسست أساساً لتقديم هذا النوع من الخدمات لصالح هذه الحكومات. وعلى هذا يمكن فهم موقف تشومسكي من كيبل وهنتنغتون، وبالمثل كذلك يمكن فهم موقف إدوارد سعيد من فؤاد عجمي و«خبراء الشرق الأوسط»، فتشومسكي مفكر مستقل بل منشق وأناركي (فوضوي ومضاد للسلطة) وناقد شرس للسياسات الحكومية التسلطية الغربية والأمريكية على وجه الخصوص. وهو يعتقد أن أية دولة إنما تسعى وراء مصالحها وأحياناً بأي ثمن، فما بالك بدولة بحجم وبطموح إمبراطوري كالولايات المتحدة الأمريكية. وهنا مكمن الخطر في هذا النظام العالمي القائم على الدول أي الذي لا يعترف بشيء غير نظام الدولة، في ظل وجود دولة كبرى وذات تطلعات إمبريالية تخنق أنفاس العالم بقدر ما تؤمّن مصالحها الحيوية بتلك القواعد العسكرية المنتشرة حول العالم من اليابان حتى الخليج حتى أوروبا ذاتها. لكن علىنا ألا نخلط بين كتاب كيبل وكتاب هنتنغتون، فكتاب الأخير له طابع تنبوئي يمكن أن يقال انه من نوع النبوءة التي تحقق ذاتها بذاتها أو بغيرها. وهو في هذا يختلف عن كتاب كيبل الذي كان مجرد قراءة لمسار التطورات الأخيرة في التنظيمات الإسلامية «الجهادية».
