top of page

الصمت العظيم





قصة قصيرة

للكاتب الأمريكي : تيد تشيانغ


يستعمل البشر تلسكوب مرصد أريسيبو الراديوي ، للبحث عن مخلوقات ذكية خارج كوكب الأرض. إن رغبتهم في التواصل ملحة جداً لدرجة أنهم خلقوا أذناً صناعية قادرة على الانصات عبر الكون. لكننا -أنا وزميلاتي البَبَغَاوَات- ها هنا ، فلم لا يرغبون في الاستماع إلى أصواتنا؟.

نحن سلاسلة غير بشرية قادرة على التواصل مع البشر، أليس هذا هو ما يبحث عنه البشر بالتحديد ؟. إن الكون فسيحٌ جداً ، لا ريب أن الحياة الذكية قد وُجدت فيه مراتٍ عديدة. الكون أيضاً موغلٌ في القدم، فلا بد أن هناك حضارة متقدمة كان لديها الوقت الكافي لتتمدد وتملأ المجرة في يومٍ ما، لكن على الرغم من هذا ، فلا توجد أي علامة على الحياة سوى على كوكب الأرض. يسمي البشر هذا الأمر بمفارقة فيرمي. تساؤل طرحه عالم الفيزياء إنريكو فيرمي عن مكان الحياة العاقلة خارج الأرض، وظل من دون جواب حتى اليوم.

هناك تفسير محتمل لمفارقة فيرمي، ربما تحاول المخلوقات العاقلة عبر الكون أن تخفي وجودها ، لكي تتفادى أي هجمات من غزاة معتدين. عنّي كعضو في سلالة قاربت على الانقراض بسبب أفعال البشر، أرى أن الاختباء قد يكون استراتيجية حكيمة. يبدو الأمر رجيحاً أن تظل صامتاً وتتجنب لفت الانتباه.

أحيانا يطلقون على مفارقة فيرمي مصطلح الصمت العظيم. يتوقع من هذا الكون الشاسع أن يصدر ضوضاء صوتية متنافرة ، لكنه على العكس صموت بشكلٍ مقلق. بعض البشر يعتقدون أن ثمة سلالات عاقلة قد انقرضت قبل أن تجد الفرصة للتوسع في الفضاء الخارجي. إذا كان هذا صحيح فمعناه أن هدوء سماء الليل هو صمت لمقبرة كبيرة.

قبل بضع مئات سنين، كانت أعداد سلالتنا كثيرة لدرجة أن غابة ريو أباجو في بورتريكو كانت تضج بأصواتنا الغناء. أما الآن فنحن على وشك الانتهاء، وقريبا ستصير هذه الغابة صامتة كبقية أرجاء الكون.

كان هناك ببغاء أفريقي رمادي اللون أسمه (أليكس)، مشهور بقدراته المعرفية ، كان مشهوراً بين البشر بالطبع. أمضت باحثة بشرية أسمها إيرين بيبربرك ثلاثين عاماً في دراسة أليكس، واكتشفت أن أليكس لم يكن فقط يعرف الكلمات التي تصف الألوان والأشكال، بل كان يفقه مفهوم الألوان والأشكال. الكثير من العلماء شككوا في قدرة طيرعلى استيعاب مفاهيم مجردة ، لكن الباحثة بيبربرك في النهاية أقنعتهم أن أليكس لم يكن فقط يردد الكلمات ، كان يفهم ما يقوله حقاً.

من بين كل أبناء عمومتي ، كان أليكس هو أكثر ببغاء أخذه البشرعلى محمل الجد كشريك في التواصل. أليكس مات أمس وهو لا يزال شاباً الى حد ما ، في الليلة التي سبقت موته، قال أليكس للباحثة بيبربرك: " اعتني بنفسك ، أحبك".

اذا كان البشر فعلاً يبحثون عن التواصل مع مخلوقات عاقلة غير بشرية ، فهل هناك أفضل من هذا التواصل ؟.

كل ببغاء لديه نغمة خاصة يصدرها للتعريف عن نفسه ، يسمي علماء الأحياء هذا ( نغمة الاتصال). في عام 1974 ، قام العلماء باستعمال تلسكوب أريسيبو لاصدار نغمة عبر الفضاء ، تهدف الى التعريف بالذكاء البشري. كانت هذه هي (نغمة الاتصال البشرية). في البرية ، تقوم الببغاوات بمناداة بعضها باسمها الشخصي. وعندما تقوم ببغاء بتقليد نغمة ببغاء أخرى ، تفعل هذا بغرض لفت انتباهها. اذا استطاع البشرأن يحصلوا على رد مماثل من الفضاء الخارجي لتلك الاشارة التي صدرت عن تلسكوب أريسيبو، سوف يدركون أن هناك من يحاول لفت انتباههم.

الببغاوات متعلمات لفظيات، نتعلم أن نصدر أصوات جديدة بعد سماعها، وهي ميزة لا يملكها الا القليل من الحيوانات. الكلب على سبيل المثال يستطيع أن يفهم دستة من الأوامر، لكنه لن يتمكن من فعل أي شيء غير النباح.

البشر هم متعلمون لفظيون أيضاً، لدينا هذه السمة المشتركة بيننا، إذن فالبشر والببغاوات لديهم علاقة خاصة مع الصوت، فنحن لا نصدر أصواتاً فقط ، نحن نتهجّى الأصوات ، وننطقها بوضوح. ربما لهذا قام البشر ببناء تلسكوب أريسيبو بالطريقة تلك ، المتلقي الصوتي لا يتوجب بالضرورة أن يكون أداة للارسال أيضا، لكن تلسكوب أريسيبو يخدم الغرضين ، فهو إذن للاستماع ، وفم للتحدث.

لقد عاش البشر بجانب الببغاوات لآلاف السنين ، فقط مؤخراً تقبل البشر احتمالية أن نكون مخلوقات عاقلة. أفترض أنني لا ألومهم، نحن أيضاً معشر الببغاوات نعتقد أن البشر ليسوا أذكياء ، من الصعب جداً الحكم على سلوك يختلف كثيراً عن سلوكك.

ليس صدفة أن كلمة (aspiration) ، تعني الأمل، وأيضا تعني عملية الإستنشاق. عندما نتحدث ، نحن نستعمل الهواء في رئتينا لنعطي أفكارنا شكلاً حسياً. الأصوات التي نصدرها تعبر عن نوايانا وعن قوة الحياة فينا. أنا أتحدث ، إذن أنا موجود. فقط المتعلمين باللفظ ، كالبشر والببغاوات، يدركون هذه الحقيقة ادراكاً تاماً.

هناك متعة خاصة تتعلق بتشكيل الأصوات عن طريق الفم، هي متعة بدائية أحشائية ، لدرجت أن البشر عبر التاريخ ، اعتبروا هذا النشاط طريقاً للإله.

المتصوفة الفيثاغوريين آمنوا أن الأحرف الصوتية تمثل موسيقى السماوات ، فترنموا ليستمدوا قوتهم منها.

المسيحيون البروتسنانت الخمسينيون آمنوا أنهم عندما يتحدثون بألسنتهم ، فإنهم يرددون اللغة التي نطقتها الملائكة في الجنة.

الهندوس البراهما آمنوا أنهم عندما يرتلون تعويذة المانترا ، فإنهم يقوّون دعائم الواقع.