جـنونــــــي

قصة قصيرة بقلم : تشارلز بكوسكي Charles Bukowski
ترجمة : مهدي عبدالله
ـــــــــ
تشارلز بكوسكي (1920 – 1994م) شاعر وروائي وكاتب قصة قصيرة أمريكي من أصل ألماني. من كتبه (اللّب) و (مكتب البريد) و (امرأة) و (حقيقة).
______________
هناك درجات من الجنون ، وكلما كنت أكثر جنوناً كان ذلك أكثر وضوحاً للآخرين . أخفيت جنوني داخل نفسي في معظم حياتي لكنه هناك . على سبيل المثال شخص ما سوف يتحدث إليّ عن هذا الأمر أو ذاك وحينما يثير هذا الشخص مللي بتعميماتهم المبتذلة سوف أتخيله بأنه ، برأسه أو رأسها المسترخي على الكتلة الخشبية للمقصلة أو سوف أتخيلهم يقلون في مقلاة ضخمة وهم ينظرون إليَ بعيونهم المرتعبة . في المواقف الفعلية كهذه المواقف أحاول بالطبع الإنقاذ لكن حينما يتحدثون إليَ لا أستطيع أن أتجنب تخيلهم بهذا الشكل . أو في الحالة الأكثر إعتدالاً ربما أتخيلهم فوق دراجة هوائية ينطلقون بسرعة بعيداً عني . ببساطة أنا لدي مشاكل مع الناس الآدميين .
أما الحيوانات فأحبها . إنها لا تكذب ونادراً ما تحاول أن تهاجمك . في بعض الأحيان تكون ماكرة إلا أن هذا الشيء مسموح به . لماذا ؟ .
معظم سنوات شبابي ومنتصف عمري قضيتها في غرف صغيرة جداً عاملاً في إهمال وعجلة هناك ، محدقاً في الجدران والظلال الممزقة ومقابض خزائن الملابس . كنت واعياً للأنثى وراغباً فيها ولكن لم أرد أن أقفز عبر كل الأطواق للوصول إليها . كنت واعياً للمال لكن مرة أخرى ، كما هو الأمر مع الأنثى ، لم أرد أن أفعل الأشياء الضرورية للحصول عليها . كل ما أردته كان كافياً لغرفة وبعض الشيء للشرب . أشرب وحيداً ، عادة على السرير وجميع الظلال مسحوبة . في بعض الأحيان أذهب إلى الحانات لتفحص النوعيات لكن النوعيات تظل كما هي ، ليست كثيرة وغالباً أقل كثيراً من ذلك .
في جميع المدن الكبيرة تفحصـت المكتبات ، كتاباً بعد كتاب . قليل من الكتب قال أي شيء لي . غالبيتها كانت غبـاراً في فمي رمـلاً في عقلـي لم يرتبـط أي منها بـي أو كيف أشـعر : أين كنت ـ لامكان ـ ماذا لدي ـ لاشيء ـ وماذا أردت ـ لا شيء .
كتب القرون زادت فقط من غموض إمتلاك أسم ، جسد ، المشي في الأرجاء ، الكلام وعمل الأشياء . لا يبدو أن هناك أحداً معنياً بجنون محدد .
في بعض الحانات أغدو عنيفاً . كانت هناك شجارات متحالفة خسرت العديد منها . لكني لم أحارب شخصاً معيناً بالتحديد ، لم أكن غاضباً ، كنت فقط لا أستطيع أن أفهم الناس ، ماذا كانوا وماذا فعلوا أو كيف ينظرون ؟ كنت أدخل السجن وأخرج منه ، كنت أطرد من غرفي . كنت أنام على دكات الحدائق العامة وفي ساحات المقابر . كنت متشوشاً لكني كنت غير سعيد . لم أكن فاسداً أو شديد القسوة . فقط لا أستطيع أن استخلص أي شيء مما كان هناك . عنفي كان ضد الفخ الواضح ، كنت أصرخ ولم يفهموني . وحتى في الشجارات العنيفة جداً كنت أنظر إلى خصمي وأفكر ، لماذا هو غاضب ؟ يريد أن يقتلني . بعد ذلك يتحتم عليّ أن أكيل بعض الضربات لابعاد الشخص الحقير عني .
الناس ليس لديهم إحساس بالمرح ، انهم جادون للغاية حيال أنفسهم . في مكان ما على امتداد الطريق وليس لدي أي فكرة عن المكان الذي جاءت منه وصلت إلى التفكير بإنني ربما ينبغي أن أكون كاتباً . ربما أستطيع أن أدون الكلمات التي لم أقرأها ، ربما بعملي ذلك أستطيع أن أبعد هذا السفّاح عن ظهري . فبدأت ومرت عشرات السنين دون حظ يذكر . الآن أنا كاتب مجنون . غرف أكثر ، مدن أكثر . غصت إلى أسفل وأسفل . تجمدت في إحدى المرات في أطلنطا في كوخ ورقي ملوث بالقار ، عشت على دولار وربع في الأسبوع الواحد . لا إمدادات مياه ، لا ضوء ولا حرارة . جلست متجمداً في قميص الكاليفورني . في أحد الصباحات وجدت عقب قلم رصاص صغير وبدأت بكتابة الأشعار في هوامش صحيفة قديمة ، على الأرض .
أخيراً ، في سن الأربعين ظهر كتابي الأول ، كتيب أشعار صغير ، اسمه الوردة والقبضة والعويل الوحشي . وصل طرد الكتب بالبريد وفتحته وهنا كانت الكتيبـات الصغيرة . إندلقت على الممر الجانبي . كل الكتب الصغيرة إندلقت وانحنيت أنا بينها ، كنت منحنياً على ركبتي وأخذت قبضة وردة وقبّلتها . كان ذلك قبل ثلاثين سنة .
أنا لا زلت أكتب . في الأربعة شهور الأولى من هذا العام كتبت 250 قصيدة . لازلت أشعر بالجنون يندفع خلالي لكني لازلت لا أجد الكلمـة عبر الطريق الذي أريده ، السفّاح مازال على ظهري . سوف أموت والسفّاح أبن الكلبة على ظهري لكنني لم أتحارب معه . وإذا كان هناك أي شخص يشعر بالجنون بما فيه الكفاية لأن يصبح كاتباً سأقول له هيا إلى الأمام . إبصق على عين الشمس أضرب تلك المفاتيح ، أنه أفضل الجنون المنطلق . القرون تحتاج إلى المساعدة ، النوعيات تبكي من أجل الضوء والمقامرة والضحكة . أعطه إليها . هناك ما يكفي من الكلمات لنا جميعاً .