رنين الموج ..قرية منسية مسرودة في رسوم ايجازية

ذات خيلولة، وقف ايتالو كالفينو على حافة النص، وصار يتأمل استواء الموجة. يشكّلها على هواه، وبمزاجه. يتفنن في تعضيل مفاصلها. ينحتها في قامة تمثالية راقصة، تعلو وتتشاهق إلى أن تهوي على صفحات (الماء/النص). لحظتها كان يؤدي طقساً من التفكير البصري. وفيما يشبه الهلوسة كان يتصوّر أن بمقدور أمواج البحر التراجع إلى الوراء إلى أن تغرق في حواضن الماء الغامض، وكأنه يريد من خلال ذلك المشهد الرؤيوي أن يطوي الزمن بأثر رجعي، أو القبض عليه ربما. عندها، بدت لغته محلّقة بخفة فوق النص، وملتحمة في الآن نفسه مع اللقطة المشتهاة، بما حملته كلماته من قدرة على الربط بين الأثر المستدعى من الذاكرة، والإحساس المراد استدامته، اعتماداً على مخيّلة بصرية سبقت التكوين اللفظي للنص، أو تزامنت معه على أقل التقديرات.

هكذا أقام تمثالاً متخيلاً للموجة، فانتصبت كصنم مؤلهٍ داخل النص، بالقدر الذي بدت فيه بمثابة الممر الحسّي والمجازي إلى فضاء واقعي يضج بالحياة. وهو ذات العنوان المؤلب، الذي أغرى عمر الراشد وفريد رمضانلإقراره كلافتة ومضمون للنص اللغوي البصري المشترك (رنين الموج – عن سيرة القرية المنسيّة وكائناتها العاشقة) حيث اعتمدا على ذات (الثيمة/المفردة) للارتداد العمودي داخل لحظة آفلة، وتأوين ذاتيهما المصابتين بحنين لا شفاء منه في المكان المحلوم به، إذ ما زالا ينتميان لمخلوقات مسكونة بالوجود القروي. وهما ممسوسان قطعاً بوطأة الانطباعات الحسية لزمن انسلّ من ردهة الروح، الأمر الذي يفسر لوعة التقاطهما للمكوّن الرومانسي للموجة، بما تختزنه من حمولات إيقاعية وبصرية.

وبمقدار ما تحمل التفاتتهما الحالمة إلى الوراء من عودة إلى مرجعيات حيوية قوامها الكائن الحسّي، يشير تماسهما الفني مع المكان المطمور في الذاكرة، إلى رغبة حارقة للتواصل مع رنين اللحظة، وإعادة ترتيب مفرداتها المعاشة، كما يبتغيان إقامة دليل ثقافي متعدد الدلالات والأثر، يشير إلى ما تبقى من مآثر حيوات مسكونة بسحر البحر وشاعريته، أو هكذا استوى ذلك الحنين في كلمات وألوان، داخل مزيج نصي على درجة من الانفتاح والاتساع والتنوّع، يقوم على إعادة تأليف أطلال المرئي، وإنطاق آثاره الصامتة. داخل علاقة تقوم على التوازي بين النص والصورة، هي بمثابة اللازمة الأصيلة من الوجهة الفنية لتبادل الأدوار ما بين الشعر والرسم.

وإذا كانت وحدات النص المتباعدة تفصح عن استقلالية تجنيسية مبعثها التأطيرات الخارجية لكل اشتغال، فإن احتشادها الروحي الجواني يبعث بجملة من إشارات التآلف الجمالي الداحضة لذلك الوهم الشكلي، فثمة تواطؤ إيهامي مدبّر، يبدو بمقتضاه فريد رمضان وكأنه (ينصّص) المكان المُغادَر، أو يُشعرنه بمعنى أدق، عطفاً على (تشكيل) عمر الراشد، حد مخاطبته بصراحة عباراتية ليواسيه أو يشترك معه في غناء اوركسترالي النبرة رثاءً للقرية الملقاة على هامش الذاكرة، كما قد تشي القراءة الأفقية لقشرة النص عند موازاته بالسطح البصري للوحات، لولا أن زخاته العباراتية المتأتية من مخزونه العاطفي تكشف عن ذاكرة شخصية نضّاحة، تنزاح عن المرادات الكلّية للوحة، ليس بغرض نفي الاستنساب للنص البصري، والمكان المعيش، ولكن بغرض تصيير الذكريات كلمات، بحيث يتم تعضيد الشكل والمحتوى بعلاقة عضوية تتشكل في الأعماق، بمعنى أن اللامرئي من الصلة بين اشتغاليهما، هو جوهر القيمة الجمالية، أو الأس الذي يقوم عليه المنجز.
بموجب ذلك الديالكتيك الفني تتفكك خدعة التقاسم الأدائي بين ما يمكن تسميته بفن العين وفن اللسان إذ يبدو ذلك الاستلحاق النصي، أو التماهي، مجرد إجراء شكلي للتماس مع برهة حسّية ساطية ركيزتها الانسان. وهو إجراء محتّم بضرورات الشكل التعبيري، لا يتعارض على الإطلاق مع فكرة التداخل والتخارج ما بين النصوص البصرية والمكتوبة، بالنظر إلى توفّر قناعة حسّية راسخة عندهما، مفادها ألاّ مكان لتلك العلاقة البنيوية التي تربط المنجز الفني مع عضو الحس برباط مقدس، أو هذه هي القاعدة الفنية التي تم بموجبها العودة إلى القرية عبر الحروف والألوان، كما يتضح من وفرة العلامات الدالّة على التأثير المتبادل داخل النص المؤدى بواسطة حاستين، لا شعورين أو وعيين، فالتمييز بين الحواس ليس سوى حالة من التفريق السطحي، عندما يتم الاحتكام إلى فاعلية الأعماق الشعورية، التي تؤدي بمجملها إلى النفس.

بهذا المعنى الاستدعائي لا يبدو أن نص (رنين الموج) ينطلق من فراغ في الذاكرة، بل من رغبة في الاستعادة الواعية للمكان، وهو ما يعني أنهما قد استحضرا ذاتهما الفردية والجمعية، وأعادا موضعتها على خط الزمن، بكل ما يعنيه هذا الإجراء الفني من حداثة، لتمكيث شعورهما الحاد بالماضي الذي يعني بالضرورة الشعور بالتاريخ، وتوليد مساحة ينتفي فيها وبموجبها التضاد ما بين الشكل التاريخي واللاتاريخي للمكان. ومن هذا المنطلق بالتحديد يمكن النظر إلى شاعرية نص فريد رمضان بوصفه محاولة للرسم بالكلمات، وتفسير إصراره على الشعرنة عوضاً عن السرد. كما ينبغي التعاطي مع تصويرات عمر الراشد على أنها كتابة ملونة، أشبه ما تكون بنقش مخلوقات أثرية عنيدة تأبى الاندثار في جدار الزمن، حيث يبدو واضحاً أنهما بذلك التراسل، قد اقتربا بما يكفي مما يسميه رامبو (الكلمات/الألوان).

إذاً، هي محاولة لتوحيد الحواس لا تشويشها، فكلمات فريد رمضان تبدو على درجة من الانسجام مع الوحدات الحركية للوحات عمر الراشد، محايثة له في توقيتاته الزمنية، بل ناظمة لحركة نص (القرية المنسيّة) الذي يتشكل كمركب عضوي بمعالم تاريخية، واجتماعية، وثقافية، ونفسية على قاعدة فنية، مبتناة على قهر الفراغ بحركة الخطوط، ولُجة الألوان، وشلال الكلمات، وتحرير الشكل من واقعيته، و هكذا يبدو النص مستريحاً أو غارقاً في مهاد جمالي، تكون فيه الوحدات الكلامية بمثابة وحدة قياس للمفردات التشكيلية. حيث بعضهما على إنطاق جوانية النص، وتوليد تموجات حركيته الداخلية، بما يشكّلانه من أبعاد مرسومة بالكلمات، وأفكار موشاة بتهشيرات من الضوء والظلال.
الموجة، التي يتبأّر فيها النص، بقدر ما هي مرجعية إيقاعية، هي مفردة كلامية تشكل ركيزة النص الأدبي الذي رسم به فريد رمضان أبعاد القرية. وهي أيضاً وحدة فنية مخبأة في تلابيب النص البصري، لعمر الراشد الذي يموضع كائناته، الناطقة من داخل وجودها التمثالي، على مرمى نظرة من البحر وهم يصيخون السمع لهسيس رواح الموجة ومجيئها، بمعنى أنها أساس النظام الثقافي المغدور به، الذي تتم مقاربته بدافع الحنين، أو الرثاء، أو الاستذكار، وبالتالي فإنها -أي الموجة- التي لا تبدو مرئية، هي في واقع الأمر لحظة غائرة، أو مترسّبة في الوجدان بمعنى أكثر شاعرية. وهي محسوسة، ومسموعة، ومتلفظ بها أحياناً، ككلمات متيّبسة على شفاه المخلوقات الأفروديتية المقدودة من موج وزبد البحر، المصوغة بريشته وهي في حالة من الذهول داخل اللوحات، باعتبارها علامة ثقافية ساطية، تحيل إلى التكوين البصري للقرية، وتفصح عن طبيعة التخاطب بين كائناتها العاشقة الوادعة، كما يقاس بها الإيقاع اليومي والفلكلي للقرية.
كل فن ينهض في المقام الأول على فاعلية حاسّة، وإن كان يطمح لأن يكون منجزاً من الوجهة الفنية بكافة الحواس، وبالتالي هو بحاجة إلى أن يقارب بفاعلية الحواس الأخرى وخطاباتها الجمالية. وإذا كانت الموجة تُستدعى كمفردة جامعة لكل الأشياء عند فريد رمضان، الذي يستلها من أشواقهم ولهفاتهم وأقدارهم، فهي بالنسبة لعمر الراشد تبدو مواربة، وغير حاضرة كشكل، حيث تعكس من خلال ذلك التواري إحساسه بالقرية، وشكل وعيه بكائناتها المُعبّر عنهم بعروض جسمانية محوّرة، أو برسوم إيجازية، تبتعد عن التصوير بقدر ما تندفع ناحية الموسيقى، حيث يذوب الخط في صورة النغم، كما يستدعي مخلوقاته بكامل زيها الفلكلوري وصراحة ألوانه وزخرفياته، وكأنه يريد التغني بهم، بمعنى التكلّم من خلالهم، أو الكتابة عنهم وبهم، بالقدر الذي يجسّد الحركة اللامتناهية، والمحسوسة داخل تلك الهيئات المهيبة.
هكذا يبدو نص فريد رمضان استطراداً لنظرة عمر الراشد التشكيلية للقرية، والعكس حيث يمكن النظر إلى تضريسات الريشة كمعادل للتنويع المفرداتي، على اعتبار أنهما -أي التشكيل والكتابة- ينتميان لنظام روحي، ولا يحتكمان إلى المفهوم، فما يوجد في (سيرة القرية) لا يبدو إسقاطاً للكلمة على الصورة، ولا تفسيراً لغوياً للتصويرات، بقدر ما هي موازاة إبداعية بين خطابي اللسان والعين، يتم بموجبها استعادة طقس اللحظة المنقضية، واقتراح صيغة تحليلية لهندسة المكان، حيث ينبجس الشعور التاريخي من بين شقوق اللوحات وسكتات النص المكتوب على حد سواء. وبموجب نبرتين أو مزاجين شخصيين متباينين ومتواطئين في آن لإقامة الدليل الحسّي على عفة المنقضي، المتمثّل في القرية، فالاحساس الباطني للاشتغالين فيه من التطابق ما يكفي للتغاضي عن التأطيرات الشكلية.

شعور شعبي نبيل وطافح تتشبع به الكلمات والتصويرات، وبالمقابل تبدو النزعة الثقافوية فارطة، كما أن الأحاسيس النصيّة المتعالية حاضرة على كل المستويات، فما تؤديه ريشة عمر الراشد من تشكيلات بنائية ملونة، يقابلها خزين كلامي معتّق عند فريد رمضان، وكلمات فيها من الطاقة والقدرة على الدّل، ما يكفي لإنهاض معمارية النص وإعادة تشكيل فضاء القرية الراقصة على إيقاع الموج، بكل معانيها المرئية والمكتوبة والمسموعة، وكأن عمر الراشد كمصوّر قد ابتنى بصرياته لتستقبل كحمولات نصية مكتوبة، فيما هندّس فريد رمضان مقوعاته الشعرية لتُلامس بمتخيّل بصري، أو هكذا استعار السارد ألوان الرسام ليسرد ظلال الحكاية، حيث يلاحظ أن الكلمات المبعثرة في النص تعادلها اللطخات اللونية، كما تتقابل العبارات المسترخية بميلودية الخطوط المرسلة وهكذا.
ثمة حكاية مخبأة في التصويرات والكلمات. وبتأمل السمات القصصية في لوحات عمر الراشد يمكن القول أن بمقدورها أن تروي أيضاً. ولكن من زاوية وبأدوات مغايرة لسرديات فريد رمضان الشعرية التي تبدو بتناغمها البصري المستبطن أقرب إلى الصورة الناطقة. أو هكذا يتشابهان ولا يتماثلان. وعليه، يمكن الجزم بأن التراسل الخفي القائم على العلاقات الجوفية لخطابي العين واللسان، فيه من المشتركات ما يوميء إلى التكامل، لا التصارع، من أجل تحشيد أشواق وحسرات وآهات الناس في (رنين الموج) على اعتبار أن تلك المقاربات الجمالية للحياتي تنتمي جميعها للطبيعة الحسية، بما هي جسور عضوية إلى النفس، وبما هي مرايا أيضاً، تعكس شعورهما الذاتي والإبداعي بالحياة.

ليس مكتوباً عليهما أن يتعافيا من أوهام القرية، مهما بالغا في محاولة استعادتها من خلال نص تبدو فيه استعارات فريد رمضان البصرية الجريئة على درجة من التراسل مع خطوط عمر الراشد المتكّلمة، حيث ينزع كلاهما إلى تكوين معنى معماري، تكتسي بموجبه خلفيات اللوحات بطقوس لونية روحانية الطابع، لتعرّف داخل نظام علاقات اللوحة تعريفاً حسّياً، أشبه ما يكون بالفسحة الاسترواحية، التي يتراقص على أديمها، ما استخلصه من انطباعات جسمانية. كما تجنح الكلمات للشعرية، التي تبدو هي الأخرى بدلالاتها الفائضة على درجة من التجسيم، وكأنهما يريدان التأكيد على أن الكلمات والخطوط لها هيئة جسمية، تحيل إلى كائنات مصابة بعشق المكان، وذلك بفعل المخيلة، أو تلك هي طريقتهما للنظر إلى أشياء القرية والإحساس بها.