" في عين العاصفة "حول المراحل الخمسة لأزمة منتصف العمر

دانتي أليغري " الكوميديا الإلهية" - حوالي ١٣٠٨ مترجمة كاظم جهاد
كيف نفهم حقيقة " أزمة منتصف العمر " ؟
هل هي مرض نفسي حتمي نصاب به في مرحلة عمرية معينة ؟ وصمة عار يجب أن نخفيها عندما نصاب بها ؟ أم هي مرحلة ضرورية في عمر الإنسان لابد أن يمر بها كل رجل وإمرأة ؟ ما هو المنظور المناسب لفهمها : علمي أم أدبي أم روحاني؟ هل هي ضرب من الكرب النفسي الذي نصاب به في طريقنا لقعر الإنهيار النفسي التام والإكتئاب المزمن ؟ أم إنها نعمة وفرصة في وجودنا كبشر تمكنا من إعادة تشكيل ذواتنا نحو الأفضل ؟
يسعى الكاتب وعالم النفس " أندرو جميسون " الى الإجابة عن بعض هذه التساؤلات وغيرها عبر تقديم واستعراض خلاصة معرفته الاكاديمية وخبرته كطبيب نفسي وتجربته الشخصية في المرور في أزمة منتصف العمر في كتابه الرائع "منتصف العمر - السلاح السري للانسانية " الصادر عن دار النشر " نوتنغ هيل " عام ٢٠٢٢ .

الكتاب موجز ومكثف وعميق ، يمزج فيه المؤلف ببراعة بين المعرفة العلمية الرصينة مع أمثلة مستقاة من عالم الأدب والسيرة الذاتية لشخصيات مشهورة ، تدعم اطروحات الكاتب في شرحه لموضوعه . اسلوب الكتابة وعرض الأفكار يتسم بالسلاسة وسهولة الفهم والإبتعاد قدر الإمكان عن مصطلحات أكاديمية معقدة إلا فيما تتطلبه ضرورة شرح الأفكار من الاستعانة بمفاهيم أساسية في علم النفس التحليلي وخاصة تلك المستمدة من أطروحات عالم النفس السويسري " كارل غوستاف يونغ " الذي يرتكز عليه مؤلف الكتاب في شرح رؤيته للموضوع .
محتوى الكتاب مكون من مقدمة وتسعة فصول وخاتمة بالاستنتاجات .
في مقدمته للكتاب يشير المؤلف الى أنه منذ بدء حياته المهنية كمعالج نفسي لاحظ أن ثلاثة أرباع من عالجهم في عيادته النفسية كانوا ممن تترواح أعمارهم بين الخمس وثلاثين الى الخمسة والخمسين عاما . كانوا دائما ما يحضرون جلستهم الأولى وهم في حالة من الاكتئاب والقلق وعدم اليقين حول ما ينبغي عليه أن يفعلوه في حياتهم . كانوا على شفير حالة من الانهيار النفسي التام يغمرهم احساس بالحيرة واليأس والغموض تجاه ما يعتقدون أنها مشاكل في حياتهم غير قابلة للحل . شبه عملية مساعدته لخروجهم من تلك الحالة كحال من يبذل جهدا صعبا في تسلق جرف صخري شاهق : كل انتقال الى مرحلة أعلى تعتمد على نجاح ما يسبقها . يلخص المؤلف تجربته بالقول : " خلال تلك العملية الشاقة الهادفة الى اجتياز هذا الجرف الصخري العاطفي الصعب، لايمكنني إلا الشعور مرارا وتكرارا بالاعجاب بالكيفية التي توفرها لنا فترات الاضطراب الداخلي هذه من فرصة لا مثيل لها لمراجعة حياتنا واستكشاف شخصياتنا وإعادة تشكيلها بما يتيح اطلاق امكانياتنا الداخلية والتخلص من تلك الجوانب من طبيعتنا التي تعيق نمونا النفسي " .
يمكن اعتبار " أزمة منتصف العمر " بمثابة " طقس المرور " الى حياة جديدة ( حسب تعبير المؤلف )، وهي مسألة وجدت انعكاساتها في مختلف مصادر الثقافة الانسانية منذ القدم . هناك اشارات عديدة في متن الكتاب الى ملحمة " الأوذيسة " الاغريقية ، والى " الكوميديا الإلهية " لدانتي ، والى أبطال أعمال أدبية لتولستوي وغوته وغيرهم . حيث واجه هؤلاء الأبطال شياطينهم الداخلية ومحنهم الخارجية في صراعات درامية أعادت تشكيل ذواتهم وأكسبتهم الحكمة في الحياة والاستنارة الروحية .
لا يوجد هناك أي معيار واضح للعمر الذي يمكن أن يمر به المرء عبر " طقس المرور " هذا . يضرب المؤلف مثالين بالغي الدلالة على ذلك : والدته عاشت " أزمة منتصف العمر" وهي السادسة والثمانين :

" فجأة تلاشت شخصيتها المتصلبة وسمات الرزانة القوية في طباعها ، وغرقت لعدة أشهر في اكتئاب غير معهود . ثم، ولأول مرة في حياتها، بدأت في تناول مضادات الاكتئاب ومراجعة طبيب نفسي. بعد فترة وجيزة، أمسكت بزمام أمرها وبدا أنها أصبحت مختلفة تماما. ذابت ثقتها الذاتية المفرطة وظهرت شخصية أكثر ليونة وتعاطفا وأكثر غموضا. سمح هذا التحول الغير متوقع في شخصيتها بمزيد من العلاقة الحميمة بيننا وخلال السنوات الأربع الأخيرة من حياتها أصبحت قريبا منها لأول مرة. نتيجة لذلك، تمكنا أخيرا من وضع حدا لكل التوترات والتشنجات التي كانت السمة المميزة لعلاقتنا لمدة ستين عاما ، الأمر الذي أجبرني بلا شك على إيجاد ملاذ في عقود من ممارسة العلاج النفسي " .
المثال الآخر الذي يورده الكاتب يتعلق بأزمة منتصف العمر التي مر بها " بيتهوفن " وهو في عمر الثانية والثلاثين .في نص شهير عرف " بوصية هايلغن شتادت " يبوح "بيتهوفن" لأخويه عن شعوره بالاكتئاب وانعدام الأفق في حياته بسبب فقدانه السمع وعجزه عن التواصل مع العالم من حوله وخاصة أن هذا الصمم يجعله في معضلة لا حل لها مع كونه موسيقيا . لاحقا يخرج " بيتهوفن " من حالة الاكتئاب الحادة تلك ويبدأ مسيرة حافلة بأعظم الابداعات في عالم الموسيقي .
المثالين أعلاه يستند عليهما الكاتب في إطروحته القائلة بأن ما يهم في أزمة منتصف العمر ليس توقيتها الزمني في عمر الانسان ، بل في ما يحدث فيها من مخاض تحولات ستعيد تشكيل شخصيته بصورة غير مسبوقة في حياته .
المهم ليس " متى " ؟ بل " ماذا يحدث " !
يبدو الأمر وكأنه ليس كل إنسان يعي ويدرك بالضرورة أنه يمر ،أو سيعبر في " طقس المرور " هذا . فهناك الملايين ممن تتمثل حياتهم فيما يعتقدونه أنه صيرورة ثابتة ومستمرة ومستقيمة لشخصياتهم سواء كان ذلك في النصف الأول من حياتهم أم في النصف الثاني . إن القدرة والرغبة في التفحص النقدي للذات، والاحساس الصادق بالتناقضات الداخلية التي تعصف بالنفس ، هي شروط أساسية لإدراك المرء لحالته النفسية وتشخيص علة إضطرابها . لذلك فإنه من الغير مستغرب ما يلاحظه المؤلف من حالة الإنكار الشديدة التي يبديها الكثير من مراجعيه وهم ينجرفون في خضم تيار القلق المضني المميز " لأزمة منتصف العمر " . هذا الانكار المرتبط برفض " الأنا " لمسائلة أدوارها في حياة الفرد وصراعها مع الذات الأصيلة بداخل النفس البشرية .

في الفصل الرابع المعنون " في عين العاصفة " يقدم الكاتب تشخيصا لمفاصل " أزمة منتصف العمر " التي تتجسد حسب إطروحته في المرور عبر خمسة مراحل متعاقبة .
المرحلة الأولى يطلق عليها مسمى " تفكيك الأنا " - Ego deconstruction :
في البداية لابد من الاستدراك بالقول أن تعبير " الأنا " - Ego - هنا والمستخدم في الكتاب ، ليس بالضرورة تعبيرا سلبيا وشائنا بالمعنى الشائع والدارج في الاستخدامات اليومية التي تربطه بالأنانية والغرور وحب النفس المتضخم . " الأنا " هنا بمفهوم عالم النفس " يونغ " تقع في مركز وعينا بأنفسنا ومسئولة عن تشكيل هويتنا الشخصية . إنها تؤثر في أفكارنا ومشاعرنا وأحساسينا وحدسنا . كما أنها تعني بالهوية والمظهر الذي نبديه للعالم الخارجي ( كيف أبدو أنا للعالم من حولي ) . لذلك تتمظهر " الأنا " خلف ما يسمى " القناع " - Persona - الذي نختار أن نظهر فيه شخصيتنا للأفراد والمجتمع الذي نعيش في ظله . تشتمل هذه " الأنا " بمظهرها " القناع " على كل من أدوارنا الإجتماعية والملابس التي نختار إرتدائها وأساليبنا الفردية في التعبير عن أنفسنا أمام الناس . عند " يونغ " فإن " القناع " هو النمط الأول للمسايرة والتكيف مع المجتمع وتوجد به جوانب ايجابية تحفز وتشجع نمونا الداخلي النفسي بالتزامن مع وجود جوانب سلبية قد تقف حجر عثرة أمام هذا النمو .
تلعب " الأنا " دورا هاما في النصف الأول من حياتنا حيث تمدنا بالطاقة لنمونا المهني وبناء حياتنا العاطفية والعائلية ، وتتمظهر في أدوار مختلفة نقوم بها في الحياة : أدوارنا في الدراسة و العمل ، في حياتنا الأسرية ، وفي المجتمع . بداخل الطالب والمدرس والموظف والعامل والمدير وصاحب العمل ، الزوج والأب والأبن ( ينطبق ذلك تماما على الأدوار للرجل والمرأة على حد سواء ) هناك " أنا " نشطة فاعلة طموحة تعمل بلا كلل في أعماق النفس البشرية لتحقيق الأدوار المتنوعة المناطة بها . هناك أيضا اسقاطات وتوقعات مستقبلية مستمرة تقوم بها هذه "الأنا " تتعلق بما ستكون عليه في المستقبل، وهذه الاسقاطات - Projection - تشحذ بدورها خيالات وأحلام اليقظة للفرد وتمنحه حوافز قوية لبذل مزيدا من الجهد في تحقيق أدواره .
مع مرور الزمن وتقدمنا في العمر ، تصاب هذه " الأنا " بالوهن والارهاق ، إذ يتعين عليها التكيف والتأقلم باستمرار مع المعايير والبيئة الثقافية والاجتماعية المتغيرة المحيطة بها ، خاصة عندما يطرأ تغيير أو اضطراب في أدوارها . تدريجيا يبدء معين الطاقة التي تستمدها " الأنا " عادة عبر القيام بأدوارها بالنضوب والنفاذ . تبدأ " الأنا " بالتفكك ، تعاني من الوهن والإعياء، وتفقد تماسكها ، يتزامن مع كل ذلك شكوك قوية تراود الفرد حول الأدوار التي يلعبها في حياته الخاصة والاجتماعية ، ويبدأ المرء في مسائلة هذه الأدوار وما تضفيه من معنى في حياته .
يقول " يونغ " :
" كلما اقتربنا من منتصف الحياة، وحالفنا النجاح بشكل أفضل في تحصين أنفسنابداخل مواقفنا الشخصية وموقعنا الإجتماعي ، كلما بدا الأمر كما لو أننا اكتشفنا المسار الصحيح والمثل العليا ومبادئ السلوك القويم ،فنحسبها صالحة للأبد، ونجعل من التمسك بها إحدى فضائلنا، ونتشبث بها بدون تغيير . نحن نتجاهل الحقيقة الأساسية المتمثلة في أن أهدافنا في المجتمع لا تتحقق إلا على حساب الإنتقاص من شخصيتنا . هناك العديد من جوانب الحياة التي كان ينبغي علينا أن نعيشها ظلت قابعة في مخزن الذكريات التي تراكم عليها الغبار، وتكون في بعض الأحيان كالجمر المتوقد تحت الرماد .... إن نبيذ الشباب لا يظل دائما محافظا على صفائه مع تقادم السنين، أحيانا يتعكر صفوه "

مقابل مفهوم " الأنا " - Ego - هناك ما يطلق عليه " يونغ " " الذات" - Self - ، وهي مايجسد كلية النفس البشرية بكافة محتوياتها : الوعي وفي المركز منه توجد " الأنا "بالاضافة الى "اللاوعي الفردي" و"اللاوعي الجمعي" .
المقصود "باللاوعي الفردي" هو جميع الجوانب المكبوتة والمخفية التي نشأت عن التفاعل بين الشخص وبيئته: إنها مايعتقده وما يحبه أويكرهه ، أحلامه وخيالاته ،ولكنه لايستطيع إظهارها للخارج والإفصاح عنها، لأن " الأنا" المسيطرة تمنع ذلك حتى لايتعارض ذلك مع صورة الشخص في المجتمع.
"اللاوعي الجمعي" هو تلك المنطقة في أعماق النفس التي تجعل من الممكن فهم سبب مشاركة الأشخاص الذين ينتمون إلى ثقافة معينة في بعض الخصائص النفسية المشتركة ( المعتقدات الدينية ورموز ثقافة المجتمع ) : إنه بمثابة المنصة المشتركة من العادات والتقاليد والقناعات الجماعية التي تميز مجموعة من البشر عن غيرها وذات أصول موغلة في القدم.
تسعى " الذات " باستمرار الى تحقيق الوحدة والتكامل بين مكوناتها هذه، وهو ما يطلق عليه " يونغ " بالسعي " للتفرد " . هذا السعي يلعب دورا هاما في اطلاق الطاقات والقدرات الكامنة في النفس التي طالما تم كبحها وتحجيمها للتوافق مع متطلبات " الأنا " في النصف الأول من الحياة . " التفرد " يهدف الى انبثاق الفرد المستقل في كيانا الذاتي .
في هذه المرحلة الأولى من " أزمة منتصف العمر " يبدو وكأن " الذات " تسعى عبر صراعها مع " الأنا "الى الاستفادة من هذه الأزمة لدفع الانسان الى منطقة نفسية وعاطفية جديدة ( باشتراط توفر القناعة لديه على أن مراجعة وتفحص الذات أمر ضروري له في هذه المرحلة من حياته ) .
المرحلة الثانية لأزمة منتصف العمر تتسم ببروز " اللاوعي " الى السطح . هنا يعيش المرء نوعا ما في ظل وضع غريب غير معهود في حياته يتميز بإنقلاب عكسي حاد في مشاعره : فكل ما كان يتوق إليه سابقا بات منفرا له ، وكل ما كان يكبته بداخله يظهر الى السطح بقوة . النقائض تتبادل مواقعها إن صح التعبير . يطلق " يونغ " عليها مسمى Enantiodromia " " - " إنانتيدروما " وهي كلمة مستمدة من الفيلسوف الإغريقي " هيراقليطس " مفادها أن كل شئ يسير عاجلا أم آجلا الى نقيضه . وبمعنى ما يمكن اعتبارها بمثابة ظاهرة التغيير الضدي . إذ عندما يسود التطرف والمغالاة في عادات وسلوكيات الحياة الواعية لفترة طويلة ؛ فإن " اللاوعي " يقوم بتشكيل موقف مضاد بنفس القوة ، ولكن في حين أنه يبقى مكبوتا وتحت سيطرة " الأنا " طيلة النصف الأول من حياتنا ، فإنه سيخرج بقوة ويعلن عن نفسه بوضوح في المرحلة الثانية من أزمة منتصف العمر في سياق سعي " الذات " الحثيث لإعادة التوازن لمكوناتها . لاعجب إذا إعتبر " يونغ " عملية " إنانتيدروما " بمثابة " أروع القوانين النفسية على الاطلاق : إنها الوظيفة التنظيمية للأضداد " .
بيد أنه لابد من الانتباه الى أن مسار هذا " القانون النفسي الرائع " لن يكون بالضرورة مفروشا بالزهور ، إذ إنها مرحلة حساسة ودقيقة في حياة من يمر بها .
كما لاحظنا سابقا تكون " الأنا " مفرطة النشاط في النصف الأول من حياتنا ، وذلك بغية تحقيق النجاح لأهدافها المرتبطة بالعوالم الخارجية : في العمل ، في البيت، وفي العلاقات الاجتماعية . نشاط محموم لا يهدأ من أجل " الفعل " بدلا " من أن تكون ذاتك " . النفس البشرية تعيش هنا في حالة تسمى " الإنبساط " - Extroversion - ، أي أن ماتفعله موجه نحو أنشطة خارجية . مع تفعيل حالة " إنانتيدروما " في هذه المرحلة يحدث إنقلاب تدريجي من حالة " الإنبساط " الخارجي الى حالة من " الإنطواء " الداخلي " للنفس . From Extroversion to Introversion . تبدأ النفس في رؤية إحتياجاتها الداخلية بدلا من الإهتمام فقط بواجباتها الخارجية المرتبطة بدور " الأنا " .
يصاحب هذا الانقلاب التدريجي احساس متزايد بخيبة الآمال التي كان يعلقها المرء على أدواره المختلفة في حياته الماضية ، وتراوده الشكوك باستمرار حول المعنى الذي تمنحه هذه الأدوار علي حياته النفسية واستقرارها .
يلاحظ المؤلف أنه غالبا يتعامل مع مراجعين في الأربعينات والخمسينات من أعمارهم ممن يجدون أنفسهم " محاصرين " في الأدوار التي وجدوا أنفسهم فيها طيلة حياتهم . يشمل ذلك حياتهم الأسرية والعملية بدرجات متفاوتة . جميعهم يشتركون في الاحساس بأن طاقتهم على التحمل والاستمرار بهذه الأدوار المختلفة قد استنفدت . كل توقعاتهم واسقاطاتهم المستقبلية لهذه الأدوار تبدأ بالانسحاب الى أن تتوقف تماما . لاعجب أن تشهد هذه المرحلة نهاية علاقات زوجية غير سعيدة أو خروج مفاجئ من عمل قضى المرء معظم حياته يمارسه ولكنه تحول الآن الى عبء نفسي لايطاق .
المرحلة الثالثة : مرحلة المرواحة والانتظار والترقب .
الدخول الى المرحلة الثالثة يعني أن الإنسان قد أزاح عن كاهله السيطرة المطلقة ل " الأنا " القديمة ، بيد أنه في مفهوم علم النفس التحليلي، فإن الفراغ الناجم عن التخلص من الحياة القديمة المرتكزة على توجيهات " الأنا " ومتطلباتها ، لايتم ملئه فورا ، بل تسود مرحلة مشوبة بالقلق والتوتر النفسي ناجمة بالأساس من الشعور المستمر بإنعدام آفاق وأشكال التغيير المستقبلية . يحس المرء بأن كل الطرق نحو المستقبل باتت مغلقة أمامه ، ويعيش في حالة مزمنة من القنوط والكآبة . ويبدو الأمر وكأن الأرض المحروثة الجديدة بداخلنا لم تتم زراعتها ، لإننا نجهل ماذا سنزرع فيها .
على الرغم من أن " يونغ " إعتبر هذه المرحلة ضرورية لبروز " الذات " وسعيها للإمساك بزمام أمور النفس بغية تحقيق تكاملها وإنسجامها ، إلا وجود هذا الفراغ الداخلي ، في ظل انهيار دفاعاتنا الداخلية التي اعتدنا الإعتماد عليها في فترة سيطرة " الأنا " في السابق ( الإنكار ، الكبت ، التوقعات المستقبلية ) سيفسح المجال لبروز المخاوف ومختلف أنواع الرهاب . غالبا ما تنتاب المرء نوبات من القلق الحاد والأرق والهلع وإضطرابات الأكل وغيرها من الأعراض العصبية . يعتبر الخوف من الموت من أشد أعراض هذه المرحلة تأثيرا في من يمر بها ، ويتحول الى هاجس يومي مقلق ، بحيث يتحول أي عارض صحي يحس به المرء الى إشارة محتملة لمرض قاتل يتربص به . هذا الإنشغال والهوس بفكرة الموت يسهم في تزايد الاحساس بإنعدام المعنى من الحياة وفي عقم أي جهد يقوم به . كلما سعى المرء للقيام بأي نشاط ذو معنى يفشل ،وتخور قواه ومعنوياته. " يونغ " إعتبر هذا الرعب من فكرة الموت بمثابة " موت رمزي " للأنا " المصابة بالهلع ، في حين أن " الذات " العاقلة بداخلنا تدركه وتتقبله كنتيجة طبيعية للحياة . هذا التوتر الحاد بين " الأنا " و " الذات " يبلغ مداه الأقصى في أواخر المرحلة الثالثة من أزمة منتصف العمر ، لذلك يقترح المؤلف الإستعانة بالطبيب النفسي أو شخص يحوز على الثقة للمساعدة في الخروج من قعر الهاوية النفسية التي يجد المرء نفسه فيها ، والتي قد تتفاوت مدتها الزمنية من شخص الى آخر ، وأحيانا قد تمتد الى بضعة سنين حرجة.
في أحدى مقابلاته التي أجريت بعد صدور كتابه أشار المؤلف الى أن من أصعب الأمور التي صادفته مرار في تعامله مع مراجعيه الذين يخوضون غمار هذه المرحلة تكمن في مخاطر الانزلاق الى هوة الإدمان على السلوكيات المدمرة مثل الكحول و المخدرات وغيرها كأحد أشكال الهروب من معاناتهم وإضطراباتهم النفسية .
المرحلة الرابعة : مرحلة " النمو والخروج من أزمة منتصف العمر "
بعد المواجهة المؤلمة والصعبة مع تجربة الخوف من الموت ( الذات العاقلة تمسك زمام الامور بدلا من الآنا الهلعة والخائفة ) تبدأ مرحلة النمو والخروج التدريجي من أزمة منتصف العمر، وتتسم بجانبين :
الأول العودة الى حضن العلاقات الحميمية ،أي الى تلك العلاقات التي تضفي احساسا بالحب والأمان والاستقرار العاطفي والنفسي الداخلي . تسعى " الذات " هنا الى شفاء وعلاج تلك الجروح النفسية القديمة سواء كانت متأتية من تجارب الطفولة المرتبطة ببيئة تربية مضطربة وقاسية، أو من علاقات عاطفية تعيسة مر بها المرء لاحقا في حياته ، وتم كبتها ودفعها عميقا الى كهوف " اللاوعي " . عبر هذه العملية تهدف " الذات " الى إنضاج وتمكين النفس من النمو والتعافي .
كما ذكرنا سابقا يجسد مثال تجربة والدة المؤلف نموذجا لهذا الجانب . غالبا ما يحتاج المرء الى شخص قريب منه قد يكون الزوج أو الزوجة أو شخص من خارج الأسرة والعائلة ، وقد يكون عبر الاستعانة بطبيب نفسي ، كما حدث مع مؤلف الكتاب نفسه عندما مر بأزمة منتصف العمر في الأربعينات من عمره وإستعان بمعلمته وطبيبته النفسية .
الجانب الثاني في هذه المرحلة هي ما يطلق عليه المؤلف " عودة الظلال " أي بروز تلك الجوانب من " اللاوعي" التي كانت في السابق متوارية عن الأنظار وتعيش كالظلال في نفس الانسان ؛ إنها تحتوي على كل تلك الجوانب من طبيعتنا التي تعلمنا اعتبارها مخزية وغير مقبولة، بما في ذلك الغضب والجنس والشهوة والكبرياء والحزن والغضب والغيرة والحسد والكراهية والكسل. هذه الأمور في الظل التي طالما تم كبحها في النصف الأول من الحياة ستظهر في غالبية الاحيان تقريبا خلال أزمة منتصف العمر.
على الرغم من سمعتها السيئة ، إلا أن عناصر الظل هذه تحتفظ بمكانة قوية في أعماق النفس ، وبالنسبة ليونغ نفسه فقد إعترف بأن عنصر الجنس ربما كان أخطر مكون بالنسبة له لأنه كان مشينا بشكل خاص لثقافة المجتمع المحافظ الذي كان يعيش فيه. " يونغ " يدعو الى التصدي والمواجهة بشجاعة مع " الظلال " ، لا قمعها والهروب منها، أو إسقاطها على الآخرين في محاولة للتملص من حقيقة أنها موجودة بداخلنا .
يقول " يونغ " : " في سعينا لشفاء أنفسنا ، سيتم إستدعائنا للخوض في غمار الوحل والظلام الخاص بنا . إذا لم نذهب بطيبة خاطر ، فسوف ستتم جرجرتنا الى هناك رغما عنا ."
كون هذه العملية من أصعب الأمور في سياق المرحلة الرابعة من " أزمة منتصف العمر " لايجب أن يدفعنا الى إهمال وعدم تقدير فائدتها الكبيرة في تشذيب النفس وتقليص مخاطر إضطرابها اللاحق في الحياة .
يلاحظ المؤلف أنه في ختام المرحلة الرابعة غالبا ما يتم الشعور بالتجديد والعودة إلى الاستقرار الذي طالما تم نشدانه . سوف يهدأ القلق الحاد وسيتأرجح مزاج النفس بين جانب ناضج وأكثر تفاؤلا وأقل خوفا وبين "الطفل الداخلي "الذي لا يزال مضطربا وجريحا و في حاجة مستمرة لمن يهتم به ويرعاه. هي ولادة جديدة للنفس ، تشبه ولادة طفل جديد الى الوجود يحتاج الى الاهتمام والرعاية ، هذه المرة من قبل النفس الناضجة والمتعافية من جروح الماضي ، وهو ما يطلق عليه المؤلف " إعادة تربية الطفل بداخلنا " ، ويعتبرها المرحلة الخامسة والأخيرة من " أزمة منتصف العمر " .
بإعتقادنا أن ما قام به مؤلف الكتاب من موضعة محطات " أزمة منتصف العمر " ضمن خمس محطات أساسية يساعدنا في وضع إطار عقلاني للتفكير ،يزيل الكثير من اللبس والإبهام حول مايحدث بالفعل في حياة من يخوض غمار هذه التجربة . ميزة هذا الإطار أنه مبني على حقائق مستمدة من الواقع الفعلي ، وعلى نتائج وخبرات تعامل المعالج النفسي مع مراجعيه . لايساورنا الشك في أن الكثير من القراء ممن يعبرون " طقس المرور " هذا في حياتهم سيجدون فيه ما يلامس تجربتهم الفعلية ، وقد يمنحهم وضوحا أفضل لإجتياز هذه الرحلة الصعبة .
ما يثير الجدل في كتاب " أندرو جميسون " يكمن ربما في الإسقاطات التي يقوم بها لأزمة منتصف العمر على الحالة البشرية بشكل عام ، فهو يحاجج بأن الانسانية الآن تعيش وضعا مماثلا لأزمةمنتصف العمر ، وأنها أمام تحدي أخلاقي كبير لكبح جماح قوى الاقتصاد والتكنولوجيا المنفلتة عن عقالها ، وأن فهم العالم النفسي للانسان هو ماسيساعدنا في التصدي للتحديات التي تواجه عالمنا الراهن . العنوان الفرعي الذي إقترحته دار النشر للكتاب " السلاح السري للإنسانية " ، على الرغم من طابعه التسويقي ، الا أنه يتطابق مع ما يعتقده الكاتب . حماس المؤلف في إسقاطاته أمر لا يثير دهشتنا ، ولا إمتعاضنا ، فقد شهدنا نماذج مماثلة قام بها مفكرين وكتاب في الماضي والحاضر على حد سواء ، لإعطاء وصفات قائمة على قاعدة " الحل الذهبي " لمشاكل الانسانية . هذا الحماس لا يقلل بأي حال من الأحوال من قيمة ما قدمه " جيمسون " للقارئ العام من معارف غنية في موضوع أزمة منتصف العمر والتي سعينا قدر الإمكان الى استعراضها في هذا النص .
في التمهيد لسيرته الذاتية بعنوان " ذكريات،أحلام،تأملات " التي كانت آخر ما كتبه قبل وفاته ، يقول "يونغ" :
" حياتي هي حكاية " اللاوعي " في رحلته نحو تحقيق ذاته .
كل شئ بداخل هذا " اللاوعي" يسعى الى التجلي والظهور الخارجي ، كما تتوق شخصية الفرد في نفس الوقت الى الإرتقاء من حالتها الغير الواعية الى حالة تحس فيها بتكاملها وإنسجامها. لا يمكنني توظيف لغة العلم لتتبع مسار عملية النمو هذه بداخلي ، حيث أني لا أعتبر تجربتي مع نفسي معضلة علمية .
كيف نبدو لعوالمنا الداخلية، وما يجسده ذلك من سمات مشتركة للانسان على مر العصور والأزمنة ، مسألة لايمكن التعبير عنها إلا بالأساطير. الأسطورة قادرة على وصف الحياة الفردية للأنسان ،وبذلك فهي أكثر دقة من العلم .
يتعامل العلم مع مفاهيم المتوسطات الحسابية ،وفي ذلك ضرب من التعميم المفرط الذي لاينصف التنوع والتباين في حياة الأفراد الذاتية .
لذلك تعهدت على نفسي ، وأنا في الثالثة والثمانين من عمري أن أحكي قصتي بوصفها إسطورتي الشخصية ."
لم يعتبر " يونغ" إسطورته الشخصية قائمة على مآثره وما حققه من نجاحات على صعيد العلم ومكانته في المجتمع ، بل فهمها كتجسيد لرحلته النفسية الداخلية . بهذا المعنى فإن كل إنسان يعيش إسطورته الشخصية ؛ حكاية صراعات النفس بداخله من أجل التغلب على عقبات كمالها وإرتقائها ، بوصفها "حكاية " من ملايين الحكايا الغير قابلة للتكرار، بها ما هو شخصي وفريد، وبها أيضا ما هو مشترك ويجمعه مع من سبقه وما سيأتي بعده من البشر .
ربما قد تكون رحلة العبور في " طقس المرور " ولادة جديدة له من رحم النصف الأول من حياته ، وربما لا تكون كذلك . لايوجد يقين تام في هذه المسألة . لايتعلق الأمر بالتفاؤل أو التشاؤم بل بطبيعة خيارات المرء في هذه المرحلة ، وبقدرته وشجاعته على تفحص الأمور في " عين العاصفة " بغية إجتيازها بسلام .