top of page

“كالتي هربت بعينيها” قراءة بين زمنين



حدث كتاب “كالتي هربت بعينيها: جماعة الأمر وتشكل الذات المُغلفة” ضجة لافتة وتداوله الوسط الثقافي بتعليقات متباينة. حينها قرأت الكتاب وكانت لي هذه الالتفاتة التي نُشرت في صحيفة “الوقت” في صيف 2007:

تلقيات عديدة ونقاشات متواصلة سبّبها هروب فراشة – بل حركة جناحها، فأثرى الحديث عنها حتى باتت حيوات البعض متأثرة من هكذا دوي. أتذكرُ جيداً ما صاحب نشر تجربة الكاتبة باسمة القصاب في جريدة الوقت على حلقات. كُنت تارةً اُشارك في نقاشٍ في مكان ما، ليتبعه نقاشٍ آخر في بقعة جغرافية أخرى، ومرة أخرى أجدني مدافعا عن ترجمة استحضار التجربة وأثر هذه المُراجعة الذاتية، وهكذا دواليك.

ما يعلقُ بالذاكرة، أنني سعدتُ كثيرا بقراءة التجربة، وكأنني شهدتُ خروج ذات الفراشة من شرنقتها بعد مخاضٍ طويل وعصي. دائماً ما أستحضرُ تلك الذات القوية المتمكنة واستحضر تجربتها كمثال يُحتذى لمراجعة النفس دوما وتحررها من قيود أياً يكن واضعها.

ولا أخالني إلا أن عُدت مرة أخرى لاتلقّى كتاب “كالتي هربت بعينها” بنهمٍ، وكأنني أعيشُ خروج ذاتٍ من سور آخر إلى تشكل روحٍ جديدة.

سأبدأ قراءتي لكتاب “كالتي هربت بعينيها” من حيث انتهى حوار الآخرين، لا أعرف لم، هل لأنني لم أوافق بعض التلقيات في هوامش الكتاب، ومثالها “الهامش الثاني”؟ كالتي ذكرت بأن ( الكاتبة لا تزال تُعاني من الحاجز التي عاشته لمدة 16 سنة، بدليل أن المعلومات التي ذكرتها لا زالت قليلة) . فأجدني مسترسلا بالرد عليها بأنه يجب أن نضع نصب أعيننا أن هذه ليست “فضح” لأسرار جماعة مُعينة، إنما هي “تشكّلات الذات” وهي ليست سيرة بل عبور مرحلي من حالة إلى أخرى. لا أرى بأن تجربة الفراشة “فضحت النظام الرمزي للجماعة”، بل أزاحت وأماطت اللثام عن خصوصياته وأغلفته التي أسِرتْ الجماعة نفسها بها.


من المهم جداً أن يتطلع القارئ الى ما يعتمل في نفس الكاتبة، بدلاً من محاولة اشباع ذاته بمجموعة من الحقائق والوقائع. لذا أرى أنه من المفيد قراءة الفصل المُعنون (قبل الولوج في الهروب) والتمعن فيه قبل الانتقال إلى فصول تشكّلات الذات (من الهروب الاول حتى الاخير) لنفهم ما يختمر في قلب وفكر الكاتبة وبالتالي فهم ما ارادت ايصاله للمتلقي.

غاصت الكاتبة في أعماقها لتفهم وتُفهم آليات تغليفها وآليات انفكاك تلكم الأغلفة وبالتالي معرفة ما يكتنف التجربة من فصول واستنطاق مكنوناتها.

كما أنني أسير في اتجاه مُغاير لما ذُكِر من (أن هناك الكثير من الضغوط وجزءاً من التأنيب). ما أفهمه أن التأنيب نتيجة لحالة من عدم الرضا لفعلٍ معين، وهذا ما يُجافي حقيقة ما أوردته الكاتبة – الفراشة والتي أشعرتنا برضاها، بل باصرارها على الدخول إلى مرحلة تالية من تشكّلات الذات بعيدا عن فلك الضغوط، مع ركن التأنيب جانباً.

أرى أن الكاتبة لم تكن بحاجة إلى تفاصيل سردية تُحاكى لنا كيفية حدوث الدخول والخروج من الجماعة. نعم، قد يُضيف ذلك شيئا لهذا الكتاب، ولكن الكتاب لم يهدف إلى الدخول في حيثيات التحول بقدر ما أراد تحليل الخروج من عتمة مسورة وأغلفة مُعينة من أجل التوحد مع آخرين بأغلفة متنوعة ولكنها غير مسورة.

ذكر آخر بأنه ( كان للكاتبة أن تسرد دون الدخول في التحليلات)، وهذا يُنافي مسلمات التجربة فمنْ له القدرة على تحليل هذه الأمور المتصلة بالجماعة، سوى الكاتبة؟ أليست فترة زمنية امتدت إلى 16 عاماً غير كفيلة بتحليل هذه الأمور؟ ثُم ألم نقل أن الكاتبة تملك حساً نقدياً فائقاً في قراءتها لتجربتها بما تملك من مرجعية نظرية – وأضيف عليها عملية – قوية؟

أجد أن تجربة الكاتبة تجربة غنية مركبة حصيلة سنوات من “تلقين” الذات وصهرها لتُعايش فئة معينة، وسلب تواصلها الخارجي لتكون رهينة في إطار حُلم غاية في الجمال والإقناع والتلويح المستمر بخسران ميراث لم يحصل عليه سوى الخاصين والخُلص.

لذا أقول بأن الكاتبة أبدعت بمزاوجتها بين التحليل والسرد وتناولت الاثنين معاً بحِرفية ومهارة فائقتين، ولو أنها أبقت على السرد فقط لأفرغت محتوى التجربة. فتحليل خطوات التحول كان ضروريا للقارئ حتى يستوعب ماهيته بدلا من السرد لتتحول التجربة إلى سيرة ذاتية محضة، قد تلقى الإستحسان، ولكنها لن تُجرد الأغلفة وتخوض في سببية وجودها.

أقرأ الكتاب من زاوية معرفة تشكلات ذات، لا لمعرفة من أين كانت تأتي النصوص العليا، وكيف تصل ولمن تصل. هكذا تفاصيل قد تُثار بطريقة مختلفة وبأوراق أخرى خارج نطاق “كالتى هربت بعينها”، لم أرى حتمية عرضها في هذا الكتاب. وهذا يندرج على الجانب الاثنوغرافي أيضا.