لا وجود للشيطان .. وتفاهة الشر
Updated: Aug 24, 2022

هذا الفيلم الإيراني المعروض في النتفلكس بعنوان (خير مطلق)، وهو من إنتاج ٢٠٢٠، ومن إخراج وسيناريو محمد رسولوف. فاز بجائزة الدب الذهبي في مهرجان برلين السينمائي.
الفيلم عبارة عن أربع قصص مختلفة، لكنها تشترك في فكرة العاملين في مهنة الإعدامات. يدور الفيلم حول الأشخاص الذين يتحملون مسؤولية الأفعال الشنيعة في المجتمعات، وأن كل قصة تستند إلى تجربته الخاصة. أثار الفيلم جدلاً واسعًا وحكمت السلطات الإيرانية بعد عرضه على رسولوف بالسجن لمدة عام ومنعه من السفر.
تُشير صفاء الصالح في تقريرها المنشور في موقع البي بي سي بأن ( المخرج رسولوف في فيلمه "لا وجود للشيطان" يحرص على أن ينظر إلى مفهوم الشر بمعزل عن كل التفسيرات اللاهوتية والميتافيزيقية، التي تربطه بالشيطان ليعيده إلى جوهر الفعل الإنساني، بكل إحالاته السياسية والاجتماعية. فالشر هنا يرتكبه الإنسان وليس سواه، ويظل فعلاً محصوراً داخل المجتمع الإنساني، وليست له أي امتدادات ميتافيزيقية كتلك التي تحيلنا إليها التفسيرات الدينية، بل هو نتاج اعتلال وتغييب للوعي الإنساني وحرية الاختيار، يجعل البشر ينحرفون عن جوهرهم الإنساني، لمغريات وأطماع شخصية وخضوعاً لأنظمة وقوى مستبدة).
ويكشف المخرج عن رؤيته لمضمون فيلمه، بأن الرسالة المهمة في القصص الأربع بأن (التحدث عن الناس الذين ينأون بأنفسهم ويقولون إن القرار اتخذته قوة عليا... لكنهم يستطيعون في الواقع أن يرفضوا، وهذه قوتهم).
بيد أن تقرير بي بي سي المشار إليه أعلاه يرى بأن (قوة الرفض التي يتحدث عنها رسولوف بهذه اللهجة اليقينية، تغيب عن الفصل الأول من فيلمه، الذي يمثل بنظرنا جوهرة الفيلم الحقيقية، ومنجزه الحقيقي الذي لو اكتفى به ووسعه قليلاً لقدم تحفة سينمائية نادرة لا تُنسى).
ينجح رسولوف في تصوير الضعف الإنساني وتفاهة الشر وعاديته بعيداً عن المفهوم الميتافيزيقي والقيمي للشر المطلق، أو الشيطان الذي ينفي عنوان فيلمه وجوده. يروي رسولوف في مقابلته بعد فوزه بالجائزة، كيف استوحى أحد أجزاء الفيلم الأربعة بعد رؤيته رجلاً، أجرى معه تحقيقات خلال فترة سجنه، خارجاً من مصرف. وكيف تابعه لبعض الوقت، ليخلص إلى القول: "أدركت كم هو شخص طبيعي وكم يشبه جميع الآخرين. أدركت عدم وجود وحش، لم يكن هناك شرّ أمامي، وإنما مجرّد شخص (عادي) لا يشكّ في تصرفاته". لكن هذه العادية تصب مع الاستبداد في صورة الشر المطلق أو الجذري، (فالشر المطلق هنا هو في بنية الاستبداد التي تمثل مسؤولية سياسية تقف وراء المسؤولية الجُرمية التي يرتكبها الأفراد بوعي أو من دونه). وهذا ما سيكتشفه المشاهد في التفاصيل التي تبدو مملة في القصة الأولى من هذا الفيلم، والذي يحمل اسم (لا يوجد شيطان)، حيث كان هدفه الجوهري من هذه التفاصيل الأسرية الصغيرة الوصول إلى خلق (الصدمة) والتهيئة (للمفاجأة التي يُدخرها لمشاهديه في نهاية هذا الجزء مع نهوض الموظف فجراً لعمله الذي نرى أنه في بناية محصنة ومسورة بجدران عالية، نعرف أنها سجن لاحقاً، ومع إعداد قهوة الصباح وتناول فطوره، نرى أزراراً حمراء تتحول إلى خضراء، ولا يقوم هذا الموظف سوى بفعل بسيط وبلا مبالاة يتمثل في الضغط على أحدها، ليقطع رسولوف بقسوة إلى منصة تسحب ونرى أقداماً متدليه لعدد من الأشخاص الذين أعدموا ولا نرى سوى سيقانهم المتدلية وقطرات بول أحدهم تسيل من تحت بنطاله). -عند هذه اللحظة نتذكر مشهد هذا الجلاد وهو في سيارته، شارد الذهن أمام إشارة المرور وهي تتغير من اللون الأحمر إلى الأخضر- عندها تصبح صدمة ختام القصة وكأنها ذات الصدمة الكهربائية التي تم إعدام المساجين بها!).
وينهي رسولوف هذا الجزء من فيلمه بتلك اللقطة القاسية التي تُناقض كل ذاك الحنو والرأفة التي نشرها في تصوير حياة بطله اليومية.
نشيد المقاومة الإيطالية ضد الفاشية:
أما القصة الثانية من الفيلم- وهي أضعف حلقات هذا الفيلم، حيث تكون معظم أحداثها مغامرة وإثارة الهروب من السجن، بعد رفض السجين القيام بعملية إعدام مقابل مبلغ مالي ضخم. ورغم أن رسالة المخرج واضحة في هذه القصة، وكأنها نقيض القصة الأولى التي جسدت فعلياً ما أكده رسولوف بأن هدفه من الفيلم رفض الشر والقدرة على تحدي المستبدين. ولكن فنياً لم تقدم القصة الثانية سوى تبيان انتقال السجين من شخصية خائفة ومهزوزة إلى بطل مقدام وشجاع، حيث ينجح في الهرب من السجن المحصّن بعد أن يتمكن من مفاجأة الضابط المسؤول عن بوابة السجن والحارس المرافق له وتكبيلهما والخروج، حيث تنتظره حبيبته في سيارتها وتقوده في (رحلة عبر الجبال على أنغام الأغنية الفلكلورية الإيطالية "بيلا تشاو" التي تحولت إلى نشيد المقاومة ضد الفاشية).
وهذا المشهد المفرح بإيقاعه السريع الذي أنهى قصته الثانية، نقيض المشهد الأخير من القصة الأولى ذو الإيقاع البطيء وغير المفرح.