top of page

لعبة النصوص المصاحبة في " السوافح "


ليست الرواية جنسا مقيّدا بضوابط تشل انفتاحه على ضروب من الكتابة وأجناس من النصوص، مثلما هو الحال في أنواع أدبية أخرى، تضجّ بالدخلاء وتضيق بما يشوبها من شوائب نصّية قد تكسبها هُجنة وتنافرا.

من هذا المنطلق تعدّ السمة الحوارية – بالمعنى الذي ذهب إليه باختين – في النصوص الروائية، سمة تدلّ على انفتاح النص الروائي واحتماله احتضان نصوص شتى، فكأنه بوتقة تصهر في نطاقها أجناس أخرى متداخلة.

والناظر في رواية " السوافح .. ماء النعيم" لفريد رمضان، يقف بيسر على توظيف نصوص عديدة وأجناس متنوعة في المتن الروائيّ، فكأنّ العمل ملتقى حشد من النصوص تأتي من كل حدب وصوب.

  1. العتبات النصّية

أ/ العنوان:

أول العتبات النصية التي يقف عليها القارئ هي العنوان "السوافح .. ماء النعيم" ويجد المطبّق لقواعد اللغة العربية أنّ العلاقة بين "السوافح" و"ماء النعيم" يمكن أن تكون علاقة إسنادية، فتكون "السوافح" مبتدأ، خبره "ماءُ النعيم"، ويمكن أن ينظر إلى العنوان بوصفه كلاما غير مفيد (أي ليس جملة تامة) إذا اعتبر السوافح مشتقا عاملا و"ماءَ النعيم" منصوبة بوصفها متعلقا بالمشتق. والملاحظ أنّ التفسير الأول يرفع كلمة (ماءُ) في (ماءُ النعيم) والتفسير الثاني ينصبها (ماءَ).

ب/ الإهداء:

أهدى الروائي هذا العمل الروائيّ إلى ثلاثة أفراد من عائلته (الأخ والأم والأب) وهذا الترتيب يذكرنا بنص غائب في سورة عبس "يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه"(الآيتان34 و35). فهل لذلك من دلالة؟ أمّ إنّ ذاكرة لاواعية تسربت إلى هذا الترتيب في نص الإهداء.

ونجد تجاوبا بين نص العنوان ونص الإهداء حيث يلتقيان في كلمة (النعيم) وقد تحول "ماء النعيم" في العنوان الرئيسيّ (وقد اتخذه رمضان عنوانا للفصل الثاني من القسم الأول من الرواية، أيضا) إلى "سماء النعيم" في الإهداء، فهل من دلالة لهذا التحوّل؟ الواقع أنّ الماء والسماء يرشحان بالدلالة على الإخصاب والحياة، فكأنّ غزارة حضورهما في مفتتح الرواية مؤشر على ولادة النص وتخلقه بين يدي القارئ، كي يستقبل هذا النص الوليد.


ج/ التصدير:

- التصدير العامّ:

ورد قبل القسم الأول من الرواية تصدير عامّ، هو عبارة عن آية قرآنية توسطت الصفحة السابعة "سأرهقه صعودا"(سورة المدثر، الآية 17)، فما هي الوظيفة الإيحائية التي يؤديها هذا التصدير؟ يبدو التعالق بين نصّ الإهداء ونص التصدير متينا، فآخر جملة في الإهداء هي "إلى أبي في تعب البحر واليابسة"، إنّه حديث عن التعب، والآية السابعة عشرة من سورة المدثر التي صدر بها الروائي عمله تشير إلى الإرهاق، فكأنّ صاحب النصّ يجدل ضفائر من نصوص شتى ولكنها منسوجة من خيوط واحدة بما أن الحقل الدلالي الذي يجمعها واحد، هو حقل التعب والإرهاق... ولعل في ذلك إشارة بعيدة إلى مكابدة اللحظة الإبداعية التي تسيطر على الروائيّ عند إنشائه نصّه.

- تصدير القسم الأوّل:

تدرّج الروائي في وضع نصوص مصاحبة متنوعة فجاء تصدير القسم الأول منتميا إلى جنس مخالف لما سبقه، فإذا كان العنوان والإهداء من إنشاء المؤلف، والتصدير العامّ مأخوذا من النص القرآنيّ، فإنّ التصدير الوارد في مفتتح القسم الأول من الرواية عبارة عن مقطع شعريّ للشاعر حسين بورقبة، أورده الروائي في الصفحة التاسعة، ولإنارة القارئ حول هذا الشاعر أورد فريد رمضان نصا مصاحبا خلفيا، ذيل به الرواية سماه "إشارة هامة" عرّف فيه بالشاعر.

إنّ الاشتغال على النصوص المصاحبة، لم يقتصر على العتبات النصية الخارجية، بل شمل أيضا التعالقات النصية بين أجناس الكتابة داخل المتن الروائيّ. فالمؤلف والراوي قد تقاسما الأدوار واحتفظ كل واحد منهما بطائفة من النصوص المصاحبة التي تثري العمل وتفتحه على مسارب التأويل ومسالك التحليل.

  1. التعالقات النصية:

أ/ الرسالة:

واللافت أنّ الرواية تنفتح برسالة، دون أن يفصح لك الراوي عن كنه الرسالة إلا بعد أن يورطك في الاسترسال في قراءتها كاملة. فبعد أن يجعلك تقرأها كاملة، يقول لك: "هذه الرسالة وهذا الطلب[...] طالعها رمضان الكاتب"(ص13) بل إنه قد عمد إلى عدم إيراد لوازم الرسالة من ديباجة وحمدلة وبسملة وتأريخ وتعيين للمرسل إليه وفصل الخطاب (أمّا بعد)، فكأنّها رسالة بتراء، ولكن هذا التصرف في طريقة عرض الرسالة قد يعبّر عن كونها صيغة موحّدة (uniforme) أو قل هي صيغة طرازية لكثير من الرسائل التي ترد على شاكلتها ولا تخرج عن أفقها. بل لعلّ الغرض ليس وضع رسالة معيّنة معلومة الإحداثيات (المرسل – المرسل إليه – موضوع الرسالة – تاريخ الإرسال...) بل هو جعل النص ينفتح على شكل الرسالة بما هو توظيف للبعد الحميميّ الشخصي الذي يوحي به هذا الجنس من النصوص، وهو ما يؤدي بالقارئ إلى أن ينشدّ إلى الأثر. فضلا عن الإيهام السيرذاتي الذي ربما اوهمنا السارد به وحاول أن يوقع القارئ في حبائله عندما أشار إلى (رمضان الكاتب)، فهل هو مجرّد سميّ للمؤلف؟ أم هو قناعه؟ أم أنّ الأمر هو حيلة خِطابية ترشّح جنس السيرة الذاتية كي يلتحق بجنس الرسالة في تضامّ يؤلّف حميمية مخصوصة، تضفي على النصّ حبكة قوامها الدوران في فلك أدب الذات، وتعرية البواطن وكشف ما يحتجب في أغوار النفس؟

ولكن الكاتب يفاجئنا بأنّ هذه الرسالة – رغم ما توهم من كشف أسرار – فإنّها لم تشتمل على الأسرار الحقيقية، فهذه الأخيرة ظلت حبيسة صدر المرأة التي "كانت تود أن تقول له عن أسرارها السبعة"(ص13)، واختيار الرقم سبعة له دلالاته الرمزية والأسطورية التي لا تخفى. وهذا البوح غير الحاصل يشي بأنّ الراوي سينوب عن هذه المرأة في قنص تلك الأسرار وإفشائها للقارئ.


ب/ كلام المتصوفة

في الفصل الأول من القسم الأول من الرواية، تحضر شخصية رجل غريب ينبئ الناس في فرضة المنامة بأخبار نشأة الآخرة، وقد أدخل الراوي – على لسان هذه الشخصية – بعد عبارات ذات وظيفة تنبيهية، من قبيل "اسمعوا يا أهل البحرين.. اسمعوا يا أيها الأخيار .."(ص16) نصّا، أخبرنا الراوي في هامش ذيّل به الفصل أنّه "من كلام ابن عربي في كتاب المعرفة"(ص18). إنّ الراوي يحاول أن يسدّ الفجوات الكامنة في إحاطته بحيثيات الواقعة (الافتراضية، فيما نزعم!) بالاتكاء على نصوص واردة في التراث الصوفيّ، وذلك حتى تكتمل الرؤية الفكرية الناظمة لأحداث الرواية والمنبئة عن الخلفية الدينية التي تشيع في أعطاف النصّ. ومن ثمّة فحضور نصّ ابن عربيّ ليس مجرّد تغذية الرواية بمتن قديم يحضر بوصفه شاهدا على معاصرة التراث، بل هو – إلى ذلك – أداة فنية لإحكام توثيق العرى بين المكتوب (نص ابن عربي) والمنطوق (كلام الشخصية).


ج/ شعرية السرد

يختطف الراوي من اللغة مسافات الفصل بين الشعر والنثر، فيبدأ كلامه نثرا يوهم بفسح المجال أمام خطاب التعريفات المنطقي حيث الحدود الجامعة المانعة والعبارات المستوفية للحقيقة العقلية من الفصل والجنس والنوع، ... في دقة مزعجة. ولكنه يعدل عن ذلك السلوك اللغويّ المنتظر في التعريفات، إلى محتوى يقوم على الانزياح والعدول، فتأتي التعريفات كاسرة أفق الانتظار الذي رسمه المتقبل:

العمائم والمآتم: غصة الضلوع والبكاء

السير والمذابح: دلالة القلب في صباحات الوقت

الأسماء والسماوات: نسيج الزمن المحتشد بالنجوم

البحر والقلافون: ربما خشب الحياة

الأبواب والنجارون: ستار يغزل الليل

العيون العذبة والدوالي: نشيد العطاشى

لكأنّ التعريفات عوامات مضلِّلة ما إن تحاول الاعتماد عليها، حتى تدفعك إلى حيث لم تتوقع، إلى اختلال توازنك، وهذه هي ميزة الخطاب الشعريّ: الإرباك وتفتيق العبارة من العبارة، كالفراشة تتخذ رحيقها من زهور البستان كافة.

يكتب فريد رمضان سيرة المكان بشاعرية بالغة وبطلاقة فاتنة، حيث الذكريات تنتعش والحنين يستاق الماضي من لجامه.

كثافة اللغة سرد لكثافة المكان حيث "النعيم" قطب الرحى وعالم القصة: الرحم التي تدفع والحاضنة التي ترعى من البشر أصنافا شتى جاءوا في كرنفال موقع بأنغام متناشزة تناشز أصولهم المتعددة ومتفرقة تفرق انشغالاتهم المتنوعة.

  • مخاتلات الراوي

لمّا كانت أجواء الرواية مفعمة بنزعة طقوسية وأسطورية: واقعية وخيالية، يختلج فيها الحدث في نفحة ممكن الحدوث، فقد اتخذ صاحب الرواية راوية أنثى، شهرزادية الملامح. إنها "خديجة" لسان حال الإنسان والمكان... تتحدث بلسان المتكلم فتشيع نبراتها في شكل أنا جماعية، تختزل الذوات الحزينة في صورة نمطية، وتفتح أفق النصّ على السرد السيرذاتيّ (autobiographique). ويفتكّ الراوي- المؤلّف زمام الخطاب من راويته فيسرّب كلاما فحواه تفريع سيرة المرء إلى سيرتين "سيرة تحكيها أنفاسه وهو يدبّ على الأرض، وهي قصيرة بالتأكيد ومحدودة في سنوات العمر، يعرفها كلّ من عاش معه؛ أمّا الأخرى، فهي السيرة الأهمّ، التي تبدأ مع لحظات دفن الجسد، سيرة الحكاية وهي تنتقل مثل طيف في ثنايا الكتب، وأبيات الشعر، وسير التاريخ."(ص44)؛ وهو كلام لا يصدر – أو قل يعسر أن نصدّق أنّه يصدر – عن امرأة لا ثقافة فلسفية/ وجودية لها إلاّ الوعي الشقيّ الفطريّ المأسويّ الذي يسمها كأنثى مهيضة الجناح في مجتمع ذكوريّ سمته "أداء الفرائض وقول الشعر وسقاية الزوار وتنويع النساء"(ص43)

واختيار الأنثى لتضطلع بهذا الدور (دور الرواية)، دالّ – فيما نزعم – على الرغبة في تنزيل النصّ في "قبيلة من النصوص" شكّلت الرواية فيها درب الخلاص الذاتيّ والجمعيّ: هروبا من واقع مثقل بالتوجع والحزن. وتمثّل شخصية "الخاتون" الزوجة العراقية الأولى المقعدة رمزا للوعي الطافح بالمرارة بمجريات الأمور في هذا الواقع: حيث لا تخفى عليها شاردة ولا واردة، في الداخل والخارج، بل لقد غدت رائية، أمّا... كما سيتضح بعد حين.

لقد قسّم فريد رمضان الراوي التقليديّ إلى راويين أو بالأحرى إلى راويتين: الأولى هي الراوية الحقيقية الناهضة بالحكاية (خديجة، الزوجة الثانية لإسماعيل بن إبراهيم القلاف: الذي لا يحضر في النص إلا عبر مواقف الراويتين منه)؛ والثانية هي العارفة ببواطن الأمور ربما بسبب إعاقتها أو أقدميتها أو غربتها، أو بسبب كل ذلك، إنها الخاتون (الزوجة الأولى لإسماعيل)، وقد قالت عنها خديجة " [هي] سلواي التي تفسر لي حياتي"(ص42).

والملاحظ أنّ اختيار أسماء الشخصيات مفعم بالدلالات التاريخية والدينية المشبعة بثقل التاريخ الماثل في الحاضر بشكل كثيف، فكأنّ الواقع ليس سوى إطار جديد يُستعاد فيه الماضي الذي يلتهم هذا الواقع، فيجعله ماضيا بدوره.

تتخلل السرد الواقعيّ لوحات من السرد والوصف الحلميّ، كالذي نجده في التعويذة الرابعة، ثمّ يعقبه تعبير للحلم، فإذا هي بشارة تزفّها الخاتون لخديجة "افرحي يا حبيبة الإمام، افرحي، أمورك منفرجة كلها، ألم تبعثي بشكواك إلى أبيه، ها هو يطالعها، وييسر ما قدّر الله له من قوّة اطمئنّي يا حبيبتي"(ص42) تستحيل علاقة الضرتين إلى علاقة أمومة وبنوّة بين المرأتين أقوى وألطف من علاقة خديجة بأمّها البيولوجية.

  • حكاية الحكاية

من بين الأساليب التي شاع اعتمادها من قبل الروائيين جعل القصّة محور عملية قصّ ثانٍ، فتُنسج القصة من رحِم القصّة. وقد يعمد الروائيّ إلى بثّ خطاب نقديّ / نظريّ يدبّج رؤية فنّية للعمل الروائيّ من موقع الناقد؛ فيحيل لغة الخطاب على أداء دور ميتالغويّ، هو خصيصة الناقد بالأساس، وأحيانا – وهذا هو الحال مع نصّ فريد رمضان – لا يكون ثمّة مبرّر فنّيّ لإقحام مثل هذا "الاستطراد" حول القصّة ولكن يبدو أنّ مثل هذا الإجراء، قد أضحى ضربا من الإعلان عن توفّر الروائيّ على تصوّر حديث للقصّ بما هو فعل فنّيّ ثقافيّ منظّم، وليس محض تزجية وقت. فضلا عن إحاطة القارئ علما بما يختمر في ذهن الروائيّ من أسئلة وجودية تتصل بحقيقة الواقعة الفنيّة؛ حيث لم يعد الروائيّ ينثر كلامه في سذاجة الحكواتيّ ولا يزرع رسائل إيديولوجية مثل الكاتب الملتزم، بل أصبح يعمل لحساب حساسية جديدة تحاول تجريب آفاق تستقصي الممكنات الفنية للرواية بعد استنفاد الدروب التي لا تؤدّي إلى أيّ مكان، كما تقول العبارة الفرنسية. قد يكون ما ذهبنا إليه في هذا الرأي غير معلّل نظرا إلى اقتصاد الروائيّ في هذا الكلام المتسائل عن الحكاية، إضافة إلى توظيفه إياه بما يخدم سير العملية السردية / التأمّلية. يقول: "أين ينبغي للحكاية أن تتوقف، أين لها أن تسير وتستمرّ، وأين مسيرتنا خلفه وهو الذي سبقنا في الزمن، وسار نحو طريق يعرف نهايته"(ص44).

0 views0 comments
bottom of page