top of page

موسيقانا.. والممالك الثلاث



هذا الفيلم "موسيقانا" Our Music/ Notre musique (2004)، عبارة عن تأمل شعري- فلسفي، يقدّمه غودار بمزيج من حس الدعابة والغنائية، من دون أن يكفّ عن إذهال المتفرج، ورجّ ما استقر عليه من مفاهيم، وما اعتاد عليه من أنماط سردية وأشكال راسخة.

لهذا الفيلم، يستخدم غودار بنيةً تتسع لعناصر التاريخ والأسطورة والدراما السينمائية. إنه هنا لا يربك متفرجه بالانتقالات المفاجئة والاستطرادات، والانزياحات المربكة لصور تتباين وتتعارض، لكنه أيضاً لا يتنازل عن الشكل التجريبي الذي يعبر التخوم بين الدرامي والوثائقي.

الفيلم يطرح العديد من القضايا المعاصرة، من بينها المصالحة بين دول البلقان بعد الحروب الدامية، الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، إلى جانب اهتماماته المعتادة في العلاقة بين النص والصورة والصوت، وذلك ضمن هيكل سردي تأملي، وبناء منقسم إلى ثلاثة أجزاء متميزة، مستمد من رحلة دانتي أليغيري، في القرن الرابع عشر، حيث يُقاد الشاعر عبر ثلاث ممالك: الجحيم، المطْهر، الفردوس.. وذلك في رائعته الملحمية "الكوميديا الإلهية".

في حين كان دانتي يتخيّل سلسلة من الوقائع أو الأحداث الروحية، فإن غودار ينظر إليها كثلاث حالات تتعايش معاً، في أقاليم أجنبية، حقيقية وخيالية.

في المملكة الأولى، الجحيم، نرى عبر مونتاج كثيف، متسارع، يستمر حوالي عشر دقائق تقريباً، صور العنف (لقطات من حروب حقيقية مأخوذة من أشرطة وثائقية وإخبارية – الحربين العالميتين، معسكرات النازيين، فيتنام، الشرق الأوسط، حرب البوسنة - وأخرى من أفلام سينمائية تصوّر المعارك) الذي مارسه الجنس البشري في تاريخه وعبر العصور، وتأثير هذا العنف. ولا يرافق هذه الصور غير الصمت الذي لا يقطعه إلا عزف على البيانو.



من هذه المواد يريد غودار أن يؤكد حتمية الصراع طوال التاريخ، والعنف المتأصل في الأجيال المتعاقبة، مصوّراً المسيرة البشرية نحو التدمير الذاتي. إلى جانب إظهار مدى قدرة العنف، أو الحروب، على تغيير الإنسان (المشارك والضحية الناجية معاً) تغييراً جذرياً وتحويله إلى نقيض ما كانه.

غودار هنا يقتبس من الفرنسي بارون دي مونتيسكيو، أحد فلاسفة القرن 18، هذا القول: "بعد الفيضان العظيم، خرج البشر من الأرض زاحفين وشرعوا في إفناء بعضهم بعضاً"

هذا الجزء مبني، كما يقول غودار، على أساس الموسيقى التي استخدمها. ويضيف: "بدأت هذا الجزء بتوليف (مونتاج) ثلاث أو أربع مقطوعات موسيقية، ثم أخذت أبحث عن صور تنسجم مع الأفكار التي أردت أن أعبّر عنها. أولاً، كانت هناك دوماً معارك في كل مكان، حيث يقتل البشر بعضهم بعضاً. ثانياً، تأتي صور الأدوات والأسلحة في الحروب. ثالثاً، صور الضحايا. رابعاً، صور سراييفو أثناء الحرب".

في المملكة الثانية، المطْهر، وهو الجزء الذي يحتل مساحة كبيرة وهامة من الفيلم (مدّته ساعة)، والمصور في سراييفو ما بعد الحرب، يتم التحقيق في النزوع البشري إلى الحروب المدمرة، والصراعات السياسية بين الشعوب، وتأثيرات الحروب، في الماضي والحاضر، من جرائم النازية إلى الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي الراهن، عبر مناقشة جادة وعميقة في السياسة والتاريخ مع رجال الصحافة والأدب والأكاديميين.

في هذا القسم، ثيمات الحدود والتخوم والمعابر ونقاط التقاطع هي محورية منذ اللقطات الأولى في المطار. جميع الشخصيات تعبر تخوماً حقيقية أو رمزية. وقد قال غودار ذات مرّة: "اللغة خُلقت لتعبر التخوم".

وعن اختيار سراييفو، قال غودار: "كان لدي شعور بأن سراييفو هي المكان الأمثل لتصوير الفيلم، وهي التوضيح الأمثل للمطهر". وهو يرى في سراييفو "المكان الذي تبدو فيه المصالحة ممكنة".. على حد تعبير إحدى الشخصيات.