top of page

وحدة الأضداد بين الكونفوشيوسية والبوذية، تخلق حروفاً جديدة



الفيلم الكوري "رسائل الملك " King Letters

يركز هذا الفيلم على كيفية تأسيس أبجدية وأصل اللغة الكورية. لذلك يعتبر هذا الفيلم بمثابة حوارات عميقة ومعقدة وغامضة في علم اللغات والحروف الصوتية والساكنة. وبالتالي يحتاج عند مشاهدته لبعض من التركيز الشديد لمن يمتلك الشغف في معرفة علوم اللغة. وأمام هذا الغموض والتعقيد، فشل الفيلم فنياً، تصويراً وموسيقى، ونجح بإمتياز في السيناريو والديكور والملابس والمكياج. وعليه تحولت مشاهد الفيلم إلى شكل من أشكال ورش عمل تدريبية وتعليمية وتعريفية لعلوم اللغات وكيفية خلق الحروف.

الفيلم يبدأ من عام ١٤٤٢. حيث ملك كوريا المثقف، الذي يجلس بالأيام ليؤلف كتباً ويخلق أفكاراً لشعبه، ويكتشف في لحظة ما بأن شعبه لم يكن يفهم اللغة التي كان يكتب من خلالها هذه الكتب. لذلك جاءت فكرة أن ينشئ حروفاً جديدة مفهومة لدى العقل الشعبي بدلاً من حروفٍ لا يفهمها سوى المثقفين المنعزلين عن بقية الشعب البسيط. وحيث إن مثل هذا المشروع أكبر بكثير من قدراته، وحيث إن وزراءه هم الذين سيكونون أول المعترضين على إنشاء أبجدية جديدة، باعتبار ولائهم لمملكة الصين، ولأن معرفتهم قراءة اللغة الصينية منحتهم القوة لأجيال، ولن يرغبوا بخسارة امتيازاتهم. في تلك الفترة كانت كوريا، كملك وحكومته، ديانتهما كونفوشية، أما معظم أفراد الشعب فعقيدتهم البوذية مثل جارتها مملكة اليابان. ولكن معظم كنوز البوذية كانت في خزائن كوريا، مثل الكتاب المقدس البوذي "التريبيتاكا" المحفور على الخشب. وكانت هذه الكتب بمثابة كنوز مقدسة لكوريا، ولا يمكن تسليمها لليابان. وكان الصراع بين الكونفوشية والبوذية حاداً في تلك المنطقة. ولذلك حينما اعتنقت كوريا الكونفوشية، طالبت اليابان البوذية باسترجاع جميع الكتب البوذية الأصلية التي في حوزة كوريا. في تلك الفترة التاريخية كانت كوريا مملكة صغيرة تسمى بمملكة (جوسون) أمام اليابان كمملكة عريقة وقوية. وفي تلك الفترة أيضاً كانت البوذية هي الديانة المهيمنة على شرق آسيا، بما فيها كوريا، ولكن الملك الكوري وحاشيته من الوزراء كانوا كونفوشيين. لذلك كانت الحاشية الكونفوشية من الوزراء تضغط على الملك بأن تُرجع جميع الكتب البوذية المقدسة لليابان حتى يضعف إيمان الشعب الكوري بالبوذية ويتحولوا تدريجياً للكونفوشية. غير أن الملك الكوري المثقف كانت لديه رؤية مختلفة حاول إقناع حاشيته بها، وهي التمسك بهذه الكنوز البوذية كمُلك لكوريا، والاستفادة من التراث البوذي لخلق حروف أبجدية خاصة لكوريا، وبالتالي التحرر من هيمنة الصين واليابان على مملكته الصغيرة.



من أجل إنشاء حروف جديدة للغة الكورية، تختلف عن الحروف الصينية- الكونفوشية- وعن الحروف اليابانية-البوذية- استعان الملك الكوري بالراهب البوذي المسؤول عن المعبد الذي تحتفظ فيه بكل الكتب والوثائق البوذية المقدسة في كوريا. حيث كان شديد الذكاء، ومتبحراً بعمق في الفلسفة البوذية. عند هذا المفصل من أحداث الفيلم، بدأ التحدي. كيف؟.

الحروف الصوتية والساكنة:

البحث عن لغة جديدة، عمادها اللغة "السنسكريتية". حيث كل الرهبان البوذيين وغير البوذيين هم وحدهم الذين يعرفون هذه اللغة، أما شعوب تلك المنطقة فكل يتعامل مع لغته المحلية التي لم تكن تمتلك حروفاً تكفي لبناء حضارة عريقة!.

الملك الكوري الكونفوشي انبهر من اللغة السنسكريتية، فطلب من الراهب البوذي الكوري حامي كنوز البوذية في كوريا، بأن يكتب حروف هذه اللغة العميقة الغنية. اللغة السنسكريتية تعتبر من اللغات "الصوتية". وهناك العديد من اللغات في دول شرق آسيا القديمة حروفها صوتية، أنشأها الرهبان البوذيون اعتماداً على السنسكريتية -معظم اللغات في العالم تتكون من حروف صوتية متحركة وساكنة-. أثناء ذلك قال الملك الكوري: "بما أن جذر كل الحروف صوتية، فلابد من وجود مبدأ يستند إليه".

الراهب: قبل ١٥٠٠ سنة-وهم الآن في عام ١٤٤٢- قام رهبان الهند بتصنيف الأصوات والحروف. والمبدأ المشترك موجود في الكتاب المقدس للبوذيين.

الملك: قرأت جميع الكتب الصينية عن الأصوات في اللغات، لكن لم أجد شيئاً عن المبدأ المشترك.

-وطلب من الراهب مساعدته في إيجاد المبدأ المشترك لهذه الحروف الصوتية.

عند هذا المفصل من الفيلم، بدأ التقارب والتفاهم والتصالح بين الكونفوشية والبوذية. فنطقت زوجة الملك- كانت عقيدتها البوذية، عكس زوجها الملك- قائلة: "كم سيكون عظيماً أن يقرأ أي شخص تعاليم بوذا، ومواعظه التي ألقاها قبل ٢٠٠٠ سنة خلت، يمكن أن تتجلى أمامنا، وترن بصوت عال في آذاننا".

الملك: سأترك كونفوشيوس خلفي وسأبني لبوذا معبداً، وأنت أيها الراهب عليك أن تتقدم نحوي بعد تنحية بوذا جانباً.



الراهب: كلا، سآتي إليك حاملاً معي بوذا، لذا، تعال رجاءً وأنت حاملاً كونفوشيوس معك.

تم تشكيل فريق مشترك من الراهب البوذي وتلاميذه، وممثلي الملك الكوري الكونفوشي. قام أحد تلامذة الراهب بإطلاق أصوات من حنجرته، وتحت لسانه وفوقه، ثم سأل الراهب البوذي الفريق الملكي: ماذا سمعتم؟ فأجاب ممثل الملك:

"سمعنا أصواتاً خرجت من حلقه وجالت في فمه ثم جاءت إلى أذني".

التحدي الأول كان الحصول على جواب هذا السؤال: كيف يمكن تنظيم العلاقة بين الأصوات والحروف؟. في البحث عن ضعف اللغة الكورية، أشار الراهب البوذي بأن في اللغة الصينية-باعتبارها لغة الكونفوشيوسية المنافسة للبوذية- تشير إلى الصوت من البداية والنهاية فقط. في حين في اللغة السنسكريتية يقسمون الكلمة إلى أقسام مختلفة. فمثلاً كلمة "قانغ" في الكونفوشيوسية، الصوت يخرج من الحرف الأول-ق- والحرف الأخير-غ-. في حين في السنسكريتية يخرج الصوت بتقسيم الكلمة إلى قا- آنغ. (بالطبع يتم شرح كل ذلك عبر كتابة هذه الحروف باللغة الصينية، وهنا صعوبة استيعاب علم الحروف الصوتية في الفيلم).

لاحظ: إن كلمة "قانغ" في السنسكريتية، يسمون الصوت الأوسط لـ"آ" بالحرف المتحرك. وصوت "ق" و"نغ" بالحروف الساكنة.

هنا صرخ الملك الكوري، كصرخة "وجدتها، وجدتها" للعالم الفيزيائي أرخميدس، قائلاً:

السنسكريتية تركز على الصوت الأول والأوسط والأخير من الكلمة، ويستخدمون حروف متحركة وساكنة لتشكيل الكلمات. وبالتالي، يمكنهم التقاط جميع الأصوات بأحرف قليلة.



هنا طفح على سطح الحوار في هذا الفيلم "التعليمي" للغة السنسكريتية، ولكن بشكل مثير ومشوق، طفح التحدي التالي:

كيف نستطيع أن نخلق لغة جديدة، هاكم ورقة بيضاء فارغة، املؤها بالحروف، المتحركة والساكنة؟. ساعة و٤ دقائق

مشاهد الفيلم تكشف كيف تُخلق الحروف، حرفاً حرفا.

الحروف التي تخرج كأصوات من احتكاك الأسنان-الأضراس-. ويبدو أن في لغتهم يكون حرف الكاف، هو الحرف الذي يخرج كصوت من احتكاك الضروس، لذلك قام الفريق بجمع جميع الكلمات التي تبدأ بحرف الكاف: كلب، كأس، كبد، كرامة، كنز، كتاب،،، وهكذا دواليك.

ثم بدأ تجميع جميع الحروف التي تخرج كأصوات من خارج اللسان: نار، نارفانا. وهكذا بقية الحروف.

في مشاهد الفيلم تحول البحث عن كلمات اللغة المتحركة الصوتية والساكنة إلى متعة بصرية، ودعابة، حيث جميع أعضاء الفريق على حافة النهر، وفي المعبد، وفي جلسات التأمل أو ليالي الأرق، الكل يكتشف المزيد من الكلمات المتحركة، وكلها يتم تسجيلها.

الصراع الكونفوشيستي البوذي في كوريا:

الملك الكوري الكونفوشيستي عندما تحالف مع الراهب الكوري البوذي، قد قرر التصالح بين المذهبين. ولكن الحاشية المحيطة بالملك الذين لديهم "خط أحمر" من أي تقارب أو تصالح مع البوذية، فقد بدأوا يتذمرون من مواقف ملكهم، فاخذوا يرسلون له "إشارات" التهديد بأن يتراجع عن مواقفه وقراراته التصالحية مع البوذية.

لماذا هذا الملك يبحث عن حروف جديدة لخلق لغة خاصة بهم، بالاستعانة بالرهبان البوذيين؟.

الملك أجاب على هذا السؤال الموجه له من الراهب البوذي: بأن تستمر السلاسة الملكية، ولكن من دون فلسفة بوذية!. وذلك بسبب أن الرهبان البوذيين قد دمروا كوريا، لأنهم احتكروا المعرفة والثروة والسلطة. ولكن لن تختلف الكونفوشيوسية عنهم. لذلك أخطط لسحق الاحتكار والتفرد والتسلط بالحروف الجديدة!، وأمنح للشعب فرصة الاستفادة من جميع علوم العالم.

عدد الحروف وعدد النجوم:

لقد تمكن الفريق بأن يجمعوا جميع أصوات الكلمات وتقسيمها إلى ٢٦ حرفاً ساكناً و١٣ حرفاً متحركاً، وذلك باستخدام السنسكرتية كمرحلة أولى. ولكن الملك طلب تخفيض عدد الحروف، مستشهداً بعدد النجوم في السماء الذي يصل إلى أكثر من ترليون نجمة. بل هناك نجوم أكثر من حبيبات رمال الشواطئ، لكن تم تقسيمها إلى ٢٨ كوكبة فقط في الخارطة الفلكية. وأن الشيء نفسه لربما ينطبق على الحروف. فأصوات الناس اللفظية كثيرة، لكن لا يمكنها أن تكون أكثر من النجوم. ويجب أن تكون الحروف الجديدة بسيطة وسهلة، وإذا لم تكن كذلك، فلن يكون لدى الناس المشغولين بحياتهم وقت لتعلمها.



ولذلك بدأ الفريق في تصميم أشكال الحروف لتسجيل تلك الأصوات، حيث يمكن صنع الحروف بالخطوط والنقاط، كمبدأ ومنهج سليم، كما فعلتها الحروف السنسكريتية.

علاقة الحرف كشكل وكصوت:

بدأ الفريق في اختراع حروف جديدة بخطوط مستقيمة أفقية وعمودية ومنحنية، ونقاط، ودوائر. وكانت أصوات هذه الحروف متشابهة، ويبدو أن أشكالها متماثلة. وأخذ الملك الكوري يبحث عن العلاقة بين صوت كل حرف مع شكل الحرف!. كيف يمكن أن نربط الأصوات الخارجة من احتكاك الضرس باعتبارها أصواتاً قادمة من "الحلق"، حيث مساغ الطعام والشراب لحظة نزوله في المريء!. كيف يمكن لصوت أن يخرج من احتكاك ضرس؟. فأخذ يختبر علاقة الصوت الصادر من احتكاك الضرس بحركة الحنجرة واللسان، فأكتشف أن أي صوت يصدر من احتكاك الضرس يرافقه اعوجاج اللسان على شكل منجل أو فأس!. هنا، وفي تلك اللحظة، برزت ومضة عظيمة في دماغ الملك، ومضة/إشراقة/وحي، بعلاقة الصوت وشكل اعوجاج اللسان: بمعنى أن من الممكن "خلق" حرف جديد من ذلك الصوت الصادر من احتكاك الضرس بأن يكون شكل هذا الحرف كشكل المنجل أو الفأس. ها قد تم اكتشاف حرف جديد للغة الكورية الجديدة. وهكذا واصل على نفس المنهجية في تحويل الأصوات إلى أشكال ومنها يتحول الشكل إلى حرف جديد: صوت الضرس/ المنجل/شكل رقم 7=ق. صوت اللسان/ على شكل حرف L=ن. صوت الشفتين/على شكل مستطيل=م. صوت القواطع/ على شكل رقم ٨=س. صوت الحلق/ على شكل حرفO=و. وهكذا تمكن الفريق من صنع الأشكال الأساسية بناءً على الأعضاء الصوتية. وبالتالي البقية فقط مسألة وقت حتى يكتشفوها، أو بالأدق حتى يخلقوها.

من الموسيقى وُلِدَت الحروف: بعد الانتهاء من كل الأصوات التي يخرجها الإنسان من حلقه ولسانه وضرسه وقواطعه. انتقل الفريق إلى الآلات الموسيقية الوترية، فاكتشفوا من خلال نغماتها إمكانية تحويلها إلى شكل وإضافة خطوط عليها لتصبح حروفاً جديدة. فمثلاً نغمة "ديييينغ"، كلما ارتفعت أضافوا عليها خطاً أخر، وبذلك أصبحت لديهم حروف جديدة من أصوات تنبع من أوتار الآلات الموسيقية. فعندما يصبح الصوت أقوى وأعلى، نرسم خطاً إضافياً على الشكل الذي اختاروه للحرف الجديد.



دنجل أو جندل سقف المعبد القديم: في لحظة إرهاق ويأس لعدم القدرة في خلق المزيد من الحروف الجديدة، خلق أسهل وأجمل الحروف في العالم، استلقى الكاهن البوذي في معبد بوذي قديم سقفه مكون من أعمدة خشبية نوعها من الأشجار ذات الجذوع الصلبة، نسميها في دول الخليج العربية بـ"الجندل" أو "الدنجل". فأخذ الكاهن يتأمل أشكال تداخل هذه الدناجل/الجنادل مع بعضها البعض، فتخيلها حروفاً جديدة ممكن إضافتها إلى الحروف الجديدة للغة الجديدة. هذا المشهد وبعض المشاهد الأخرى السابقة ترمز إلى قدرة الدماغ المبدع المشغول ليل نهار بقلق الخلق الجديد، ستأتي لحظة/إشراقة/ومضة/ قفزة/ وحي/ لفتح جدار الغموض والكشف عن خيط/ نور/ ضوء/ فضة اللغة الجديدة!.

وهكذا تمكن الفريق من خلق سبعة عشر حرفاً ساكناً، وأحد عشر حرفاً متحركاً. أي تمكن هذا الفريق من الملمين باللغة السنسكريتية والتبتية من الكهنة البوذيين، وأتباع الكونفوشيوسية، كتيارين متعارضين قررا العمل معاً ضمن مبدأ (وحدة الأضداد) وهذه الوحدة بين الضدين تلاقحت فأنجبت اللغة الجديدة، بـ٢٨ حرفاً أساسياً.

وعندما عُرضت هذه الحروف على الملك، طلب حذف حرف لأن صوته عميق ولكنه معقد للغاية، ولأن الملك يريد حروفاً بسيطة مفهومة ومقبولة للشعب. معلقاً الملك (هذا الحرف كأنه حرف شاذ من بين الحروف المتحركة البسيطة والتي لم تصل إلى الكمال الذي أحلم به).

ولكن الراهب البوذي اعترض على حذف هذا الحرف، باعتبار أن على الحروف أن تكون حاضنات وحاويات للصوت، ولكن يمكن أن تكون قاتلة له. وإذا قُتل أي صوت، تموت المشاعر فيه. ولا ينبغي أن نصنع الحروف لإرضاء صانعها فقط-أي الملك-.

يعلق أحد تلامذة الراهب (عندما أسمع صوت بكاء بقرة، (باع باع باع) فإنها تذكرني بأمي التي لم ألتق بها، وهذا يسعدني. وكلما رددت نفس الصوت عند قراءة نص مقدس، فسعادتي تتضاعف أيضاً. جميع النجوم قُسمت إلى ٢٨ كوكبة فقط، اليس كذلك؟ وإذا حذفنا هذا الحرف، فسيصبح عدد الحروف ٢٧ حرفاً فقط!).



الملك وهو يفكر في كلام الراهب، صامتاً، نظر في عيني الراهب وقال له: لا تحذف الحرف.

الاستفادة من لغات الشعوب الأخرى:

كادت الحروف الجديدة للغة الكورية أن تكتمل. ولكن في الاجتماع الذي دعى إليه الملك للفريق المكلف بهدف عقد جلسة سماع صوتي مع هذه الحروف الجديدة، أحس الملك وفريقه بأن ثمة خلل ما عند تحويل هذه الحروف إلى كلمات، حيث يصبح نطق الكلمة صعباً ومعقداً، وذلك بسبب انحيازها للحروف الصينية المعقدة!. وفجأة وبومضة ذهنية يقوم الراهب البوذي بدمج الحروف الصينية بالحروف التي تنطقها منطقة التبت. فقد اكتشف أن الكلمات في اللغة التبتية "يجب" أن يكون الحرف الأول منها حرفاً ساكناً يليه لزومية أن يكون الحرف الثاني حرفاً متحركاً!. وهكذا فرح الجميع بكمال ومثالية الخلق الجديد.

وبدى الفيلم وكأنه سيكون فيلماً، لا ورشة معقدة تعليمية للمهتمين بعلوم اللغات. لذلك يبدأ المشهد التالي من الفيلم وكأنه فيلم آخر لا علاقة له بالإرهاق الكبير الذي يصاب به المشاهد المهتم بالسينما وأفلامها الفلسفية والفكرية التي تحتاج إلى جهد وتركيز، ولا تحتاج إلى استمتاع وارتخاء. فالقسم الأول من الفيلم الممتد حوالي ساعة وعشر دقائق، من ساعة وخمسين دقيقة إجمالي زمن الفيلم. كان بمثابة ورشة عمل تعليمية يكون المشاهد فيه تلميذاً، يحاول الفيلم من مخرجه إلى أبطاله أن يفهموه ويعلموه كيف خُلقت الحروف/الكلمات/اللغة الكورية.

بعد ذلك يتحول الفيلم، إلى فيلم سينمائي حقاً، وليس كفيلم وثائقي تعليمي. فبعد خلق الحروف الكورية الجديدة الـ٢٨، بدأت حملة الترويج لها في صفوف الناس. وبدأ الملك والملكة في إقامة حفلة غنائية، حيث ابتسمت الملكة وهي تستمع للأغنية وعَلّقت قائلة: الآن يمكننا كتابة كلمات أغانينا المفضلة كما نسمعها، ولن تُنسى أبداً. واستمر الملك في وضع الخطط لإنجاح وتعزيز ونشر هذه الحروف البديلة عن الحروف الصينية المعتمدة على التراث الكونفوشوسي، والحروف اليابانية المتشبعة بالتراث البوذي. ومن ضمن خطط الملك: مواصلة اختبار الحروف الجديدة في كل المجالات، تحت البحث عن إجابات على هذه الأسئلة: إلى متى يُفترض علينا أن نجهل كيف نكتب ما نقوله؟، وكيف نرسل رسائل نسأل فيها عن أحوال أمهاتنا؟.

ولكن التيار الصيني القوي من قيادات ووزراء ونواب كوريا المحيطين بالملك، اعتبروا خلق حروف جديدة بمثابة تمرد والدعوة إلى استقلالية كوريا عن الصين، في حين كان الملك يتهمهم بموالاتهم للصين أكثر من موالاتهم لوطنهم، وأنه يريد أن ينشئ بلداً يتفوق على الصين. وهذا يتطلب ابتداء أن يكون كل فرد في البلاد يعرف أن يقرأ ويكتب لغته الوطنية الخاصة، وليست اللغة الصينية. إنها البداية والشرط ليتمكن بعده للجميع أن ينطلق لطلب العلم. وهذا ما لن تسمح الصين بحدوثه!. لذلك طالب حاشيته السياسية والعسكرية من المؤمنين بالكونفوشيوسية بأن يتعلموا الحروف الجديدة ويستخدموها في كل معاملاتهم وحياتهم، حينها فقط يمكننا "أن ننشئ دولة تتفوق على الصين"، وهددهم بأن إذا لم تلتزموا بذلك، فسيلجأ إلى الرهبان البوذيين الذين خلقوا هذه الحروف بأن يقودوا خطة الترويج لهذه الحروف وتعليمها للناس.

بدأت الخطة بتأليف الرهبان البوذيين كتاب تعريفي عن إنشاء واستخدام هذه الحروف الجديدة، وذلك بشراكة مع الكونفوشيستيون الكوريون. وهدف الملك من هذه الشراكة هو منع هؤلاء الموالين للصين من تدمير الحروف الجديدة والقضاء عليها. وعليه يجب إعطاؤهم الفضل في أنهم قد أنشأوا هذه الحروف كي تدوم للأبد.

إن الأصعب بعد إنشاء الحروف الجديدة، هو حمايتها ونشرها.

في مشهد جميل تمكن المخرج من تحويل الحروف الجديدة السوداء وهي تكتب على صفائح مستطيلة من الأوراق البيضاء بحجم مترين طولاً ونصف المتر عرضاً، وهي متراصة بعضها مع البعض، كلوحات في معرض خاص لفنان حروفي.

قرر الملك البحث عن اسم لهذه اللغة الجديدة. ومن عادات البوذيين أن يمنحوا الطفل العزيز على قلوبهم اسماً متواضعاً ليعيش مدة أطول. بعد تفكير قصير قال الملك بأن اسم هذه اللغة ليكن (أون مون)، وهذا يعني عادي وبسيط، ولكن أيضاً يعني قوي وجبار. بيد أن رئيس وزرائه الكونفوشيستي المتعصب حين وافق على نشر وتوزيع وتعليم هذه اللغة الجديدة بدون أي شراكة مع الفريق البوذي الذي خلق هذه الحروف، أصر أن يختار هو وفريقه الاسم المناسب لهذه اللغة. فتم التوافق بين الملك ووزيره بأن يكتب الأول مقدمة الكتاب، وأن يكتب الثاني نبذة عن الكتاب. وكل منهما سيحاول فرض افكاره وقناعاته الفكرية على هذه اللغة. فكتب الوزير نبذته التي حاول من خلالها ربط هذه الحروف الجديدة بالصين وبالفلسفة الكونفوشية، وهذه ديباجة نبذته:(في العام ١٤٤٣ ابتكر صاحب الجلالة ٢٨ حرفاً جديداً. استندت أشكال هذه الحروف على الأحرف الصينية والصوتيات، كما أنها استندت أيضاً إلى علم الكونيات الصيني والفلسفة). أما مقدمة الملك فكانت ديباجتها هي: (لا تتطابق هذه الحروف الجديدة مع الحروف الصينية التي حتى لو رغب الأمّيون في التواصل، فلا يمكنهم التعبير عن مخاوفهم، ومن التعبير عن حزني واستيائي، فلقد ابتكرت ٢٨ حرفاً جديداً تستطيع من خلالها التعبير عن كل أحاسيسك. أتمنى أن يتعلمها كل الناس بسهولة يومياً، بهدف أن يعيشوا براحة أكبر).

في خضم هذا الصراع الداخلي في القصر الملكي بين البوذيين، مؤسسي الحروف الجديدة، والعقيدة التي كانت الملكة تعتنقها، وبين الكونفوشية التي كانت عقيدة الشعب الكوري. تمت إقامة جنازة الملكة بعد وفاتها بإبراز مشهد جميل لصراع هاتين العقيدتين. فأمام الملك وحاشيته، يقوم الفريق البوذي بتشييع الملكة ضمن طقوس بوذية رائعة في الجمال من حيث الغناء والرقص والحركات المعبرة عن رحيل الروح نحو المجهول. يقابل ذلك احتجاجات وشعارات الغضب من الشعب وقياداته الكونفوشية المطالبة بهدم المعبد البوذي ووقف هذه الاحتفالية الجنائزية البوذية بتراتيلها الطقوسية "البشعة"-بالطبع عقائدياً، لأنها فنياً كانت في فمة التعبير الفني جمالياً- الصادمة مع تراث الشعب الكوري. والملك يراقب الوضع معلقاً: الطرفان، واصلوا كما أنتم تريدون!.

الملك والحاشية الكونفوشية: في اجتماع رسمي تطالب الحاشية الملك بوقف دعمه للعقيدة البوذية، تلك البدعة القذرة في نظرهم، فكان رد الملك: كُلٌ من الكونفوشيوسية والبوذية هما عقيدتا شعب هذه البلاد. وأمام اشتداد الخلاف بين الطرفين، سأل الملك سؤالاً للمتطرفين من الكونفوشيين: لو التقى كونفوشيوس ببوذا، ماذا تعتقدون ستكون نتيجة هذا اللقاء؟

المشهدان الأخيران من الفيلم كانا من الأكثر المشاهد قسوة وألماً وجمالاً: الأول منهما حين يتم توزيع كتاب الحروف الجديدة على جميع وزراء وقيادة المملكة، و"يترجى" الملك حاشيته بنشر وتعليم هذه الحروف على الشعب، تقوم كل الحاشية الملكية وتنسحب من الاجتماع، وكل واحد منهم يترك الكتاب على الأرض تعبيراً عن رفضه واحتجاجه، ما عدا وزير واحد فقط يحمل الكتاب معه. أما المشهد الثاني فلقاء الملك بالراهب البوذي الذي كان رئيساً للفريق الذي خلق تلك الحروف، وذلك في المعبد الذي تم فيه طقوس جنازة زوجته الملكة. وهو مشهد جميل له علاقة أيضاً بالطقوس الدينية لوداع الفقيدة وتقدير ذكراها. في هذه اللحظات الحزينة والمؤلمة، يعترف الملك بأن اعتقاده كان خاطئاً حين اعتقد أن الناس لا يمكنهم التعبير عن أفكارهم لأنهم لا يستطيعون الكتابة. لأنه كان هو شخصياً الذي لم يستطع التعبير عما في قلبه من مشاعر الحب لزوجته- وبالطبع كان يترافق مع هذا الحوار الميلودرامي تصوير جميل لطقوس بوذية وداعية لروح الفقيدة الملكة-.

الحوار الأخير: بين الراهب البوذي والملك الكوري. حيث يشكر الملك جهود الراهب في خلق هذه الحروف الجديدة، وبالمقابل يشكر الراهب الملك على عبقريته. ويقول للملك: يعلم الجميع عدد البذور الموجودة في الخوخ، ولكن لا أحد يعرف كم من الخوخ ينتج من بذرة واحدة. وأنت صحيح ساهمت في تأليف كتاب واحد فقط، وهو كتاب (أون مون) وهو كتاب مقدس نُحت من قبل صاحب الجلالة للعالم القادم، وعلى الرغم من أنه يقتبس كلماته من تعاليم كونفوشيوس وبوذا، ولكن إذا ظهر رجل عظيم آخر مثلهما في المستقبل، فسيكون قادراً على إيصال كلماته ورغباته بأحرفك الجديدة أيضاً.

الإخراج تشو تشول هيون. إنتاج كوريا الجنوبية عام ٢٠١٩م.

52 views0 comments
bottom of page