top of page

الرجل الذي باع ظهره بين شيطان فاوست، وتمثال بيغماليون




فيلم تونسي من إنتاج ٢٠٢٠. إخراج وسيناريو التونسية كوثر بن هنية. رُشِحَ للأوسكار في عام ٢٠٢١ لصنف الأفلام الأجنبية. حصل على جائزة أحسن فيلم في مهرجان الجونة، وأحسن سيناريو في مهرجان ستوكهولم، وأحسن ممثل في مهرجان البندقية.

يحكي الفيلم قصة مهاجر من سوريا فرّ من بلده إلى لبنان خوفاً وهرباً من الحرب الطاحنة التي تدور هناك، ثم عزم على السفر إلى أوروبا للقاء حبيبته، وفي سبيل ذلك وافق على أن يرسم وشمًا على ظهره من قبل أشهر الفنانين الأوروبيين، ليتحول بذلك جسده إلى لوحة فنية. وفي خضم كل ذلك، يكتشف أنه فقد حريته التي لطالما كان يطاردها و يبحث عنها.

جزء من فكرة هذا الفيلم مستوحاة من قصة حقيقية لشاب بلجيكي-تيم ستاينر- الذي باع مواطنيته للفنان المعاصر-ويم ديلفوا- وحقه في دق أوشام على ظهره، محولاً إياه لوحة حية للعرض.

عندما حاول الفنان العالمي في هذا الفيلم إغراء ذلك الشاب السوري الهارب إلى لبنان كي يبيع جلد ظهره إليه ليحوله إلى لوحة، بأن محاولته لإقناعه ببيع ظهره له، فهو هنا يتقمص دور الشيطان "ميفيستوفيليس". وهو الشيطان المعروف في أسطورة الرجل الذي يبيع روحه للشيطان مقابل السعادة أو المجد أو المال. وهي الأسطورة التي كتب عنها الكاتب المسرحي والشاعر الإنجليزي كريستوفر مالرو في كتابه "دكتور فاوست"، وقد اشتهرت القصة على يد الشاعر الألماني يوهان جوته "فاوست". وملخّص هذه الأسطورة بأن صفقة فاوست مع ذلك الشيطان أن يعيش ٢٥ عاماً من السعادة، وأن يحصل على كل العلم الذي يريده، وبعد انتهاء المدة يذهب مع الشيطان ميفيستوفيليس إلى الجحيم حيث سيبقى هناك للأبد.

ويعدّ ذلك إغراءً كبيراً للشاب السوري، سام علي -الذي يؤدي دوره الممثل السوري يحي مهايني- بأن يحصل على المال الوفير، وتأشيرة "شينغن" الأوروبية، ليتمكن من السفر إلى بلجيكا لملاقاة حبيبته التي هاجرت وتزوجت هناك، وإن كان ثمن بيعه لظهره "فقدان جزئي" لحريته!.


المخرجة التونسية كوثر بن هنية

وهكذا كان الصراع بين الحاجة والحرية. هذا الفنان الفرنسي الذي اشتهر بمقدرته في تحويل الأشياء التي لا قيمة لها إلى تحف فنية، "كما حَوَّل المسيح الدم إلى نبيذ". ولذلك حين بدأ الفنان/الشيطان في وشم ظهر سام، والانتهاء من لوحته التي كانت بمثابة صورة كاملة "لفيزا" شينغن الأوروبية، وعند هذه اللحظة خرج الفنان/الشيطان بتصريح إلى الإعلام كشف فيه عن مضمون وهدف هذا الفيلم، قائلاً: "يرى بعض المتشائمين أن الفن قد مات، لكنني أعتقد أن الفن لم يكن حياً أكثر مما هو عليه اليوم. ومع آخر أعمالي- لوحته على ظهر سام- أنا أستكشف عوالم جديدة، نحن نعيش في عصر مظلم، إن كنت فيه سورياً أو أفغانياً أو فلسطينياً،،، إلخ، فأنت شخص غير مرغوب فيه في أوروبا، ترتفع الجدران أمامك. لذلك جعلت من "سام" سلعة في هيئة لوحة، يمكنه الآن السفر حول العالم. لأنه في عصرنا، أصبح انتقال السلع أسهل بكثير من انتقال البشر، هكذا وبتحويل "سام" إلى بضاعة، سيصبح بمقدوره وفقاً لقوانين عصرنا استعادة إنسانيته وحريته. تناقض كبير، هذا مضحك، آسف".

وهكذا أصبح ظهر "سام" لوحة فنية متحركة، تُعرض في المتاحف وصالات العرض، يجلس سام وهو عاري الظهر، صامت، لا يتحرك، يعرض ظهره للزوار والسيّاح وطلبة المدارس الصغار.

في مشهد جميل ومؤثر ومؤلم، قبيل افتتاح المعرض، والعمال يرتبون وينظمون اللوحات والمجسّمات، ويلصقونها على جدار الصالة، وكل لوحة مسلّط عليها كشاف الضوء، يطلب مدير القاعة من "سام/اللوحة" أن يجلس منحنياً وعارضاً ظهره لجهة الجمهور، لا يتحرك، صامتاً، صنماً، وعليه أن يبقى هكذا طوال الوقت، كبقية اللوحات والتحف الأخرى. وعند وصول الجمهور وتجمّعهم أمام هذه اللوحة/الظهر، حيث مجموعة من التلاميذ الصغار مع معلمتهم المرشدة التي كانت تشرح لهم هذه اللوحة الموشومة على ظهر "سام". قائلة للتلاميذ:

- من يستطيع أن يخبرني ماذا يمثل هذا الوشم على ظهر هذا الإنسان؟

- إنها تأشيرة "شنغن".

- نعم، تأشيرة شنغن مهمة ومن الصعب الحصول عليها. يحتاج إليها الأجانب بهدف الوصول إلى أوروبا بشكل قانوني.

طالبة صغيرة: هل كل من يأتي من بعيد لديه هذا الوشم على ظهره؟

الجميع يضحكون، و"سام/اللوحة يتفرج عليهم وهو "يغلي" من أعماقه.



في مشهد آخر فنتازي-حواري- حيث يعلن أحد هواة جمع اللوحات وبيعها في المزادات، بأنه قد قرر "شراء" سام/اللوحة، وصرح للصحافة بالتالي:

- لقد ترددت كثيراً قبل شراء "سام"، وحيث إنه عمل فني لا يمكنني الاستمتاع به بشكل كامل بمجرد مشاهدته في المتحف، وكجامع للوحات الفنية، قالت لي زوجتي بأن هذا العمل الفني يحمل توقيع الشيطان! ولذلك لم أستطع التخلي عن الحصول على هذه اللوحة، هذا الجسد القوي!.

وأمام هذا الإعلان، برزت الأسئلة حول مدى علاقة بيع الأفراد بقوانين منع الاتجار بالبشر. ولأن مديرة أعمال المؤسسة الفنية لهذا الفنان/الشيطان، واعية ومدركة بقوانين منع "بيع" الإنسان/اللوحة، "وحيث أن هذا التاجر، جامع اللوحات، سويسري الجنسية، ولأن سويسرا "متقدمة" جداً في قوانينها، وتسمح بالاتجار باللوحات والفنون ما بعد الحداثة، ومنها اللوحات الموشومة على أجساد البشر. وأن كل الفنانين في العالم دائماً يبحثون وسيكتشفون مناطق جديدة وغير معروفة !!!". كان ذلك تصريح مديرة أعمال ذلك الفنان/الشيطان الذي قاطع تصريحها وهي تدافع عن شرعية بيع الجسد/اللوحة، وقال لها أمام الصحافة : "ينبغي عليكِ أن تكوني صريحة مع العالم، فأنتِ قوادة فنية"!!!.

أمام هذه المشاهد كان الغليان والغضب في أعماق الشاب السوري سام علي يزداد ويتراكم رويداً رويدا، وبدأ يطفح على السطح على صورة تمرّدات وغضب واضح ورفض للطاعة والرضوخ لهذه المؤسسة الفنية!. وعند هذه المحطة أدرك الفنان/الشيطان بخطر التمرد القادم من سام ضد مشروعه الفني الجديد. فأوضح له بأن ظهره/لوحته الفنية بمثابة ذلك التمثال الذي وقع خالقه في حب تمثال نحته، وتمنّى أن تدب الحياة في التمثال. وصرخ في وجه سام: أنا هنا عكس هذا النحات "بيغماليون" تماماً!! فأنا لا أستطيع أن أُحوّل "سام" إلى "جماد"-كتمثال بيغماليون- بلا روح متمردة، ولكنني أتمنى لسام "الموت" إذا ما حاول التمرد عليه!. إذن فهذا الفنان/الشيطان قرر أن يمارس نقيض أسطورة بيغماليون، ذلك النحات الشاب الذي عمل طويلاً على تمثال امرأة، وبعد أن استكمل نحته، وأصبح آية في البهاء وأجمل من أي امرأة عاشت على وجه الأرض أو نحتت في الصخر، وقع النحّات في عشق تمثاله وأحبّه حباً شديداً لدرجة أنه تمنّى أن يتحول هذا التمثال إلى امرأة حقيقية.


يحي مهايني

وأضح نهاية هذا الفيلم كيف تمكّن الفنان/الشيطان أن يعقد صفقة سرية مُحكمة مع الشاب السوري سام في شراء جلد ظهره-أي لوحة شنغن- وذلك بعد قراره الرجوع إلى سوريا مع حبيبته، لينتهي الفيلم بعرض جلد ظهر سام/اللوحة على جدار إحدى صالات العرض الأوروبية، مقابل مبلغ التأمين على حياته في حال موته- على يد جماعة الدواعش في مدينته السورية "الرقة". وكانت هذه هي الصفقة بين فاوست "سام" الذي انتصر على الشيطان، والشيطان "الفنان الفرنسي" الذي عشق تمثال جلد الظهر بيغماليون.

فيلم "الرجل الذي باع ظهره" من حيث مضمونه القصصي، تكرر مضمونه في العديد من الأفلام، لكن هذا الفيلم تميز عن سابقيه بعمق السيناريو والحبكات الفنتازية في الحوار.

وفي تحليل جميل يشير التقرير المنشور على موقع قناة الـ BBC بأن هذا الفيلم: " تناول موضوع الحرية بين عالمين متناقضين تماماً، لكل واحد منهما شفراته الخاصة؛ الأول هو عالم المهاجرين الهاربين من القمع والحالمين بالحرية، والثاني عالم الفن المعاصر الذي عماده الحرية، لكننا في النهاية نجد أنها حرية مضاعفة في العالمين معاً؛ في الأول بتبدد الحلم على صخرة واقع اللجوء والهجرة وفي الثاني بملابسات استلاب الفنان وتسليع عمله الفني في سوق تداوله.

فتتحول معالجة المخرجة والسيناريست بن هنية إلى صرخة في وجه عالم الاستهلاك ومجتمع الفرجة، بتعبير المفكر الفرنسي غي ديبور، وعالم الاغتراب والاستلاب الإنساني الذي يغلب فيه التمثيل على الواقع ويستحيل الوجود فيه إلى مجرد مظهر ويختلط فيه الحقيقي بالوهمي والزائف الذي يتم فيه تسليع كل شيء. وحتى الإنسان فيه، لم يعد مستهلكا لنتاج مؤسسات إنتاجه الاستهلاكي ولا حتى بضاعة وسلعة يتم تداولها ، بل مجرد وقود يديم آلتها الرهيبة. وهكذا نجحت بن هنية ليس في معالجة الأزمة السورية المعقدة وتفكيك ملابساتها، بل بالتذكير بموقعها ضمن أزمة مجتمعنا الإنساني المعاصر، الذي باتت الحروب والمآسي الإنسانية مادة للفرجة فيه، تنعكس في طوفان الصور والتمثيلات التي تُدوّرها وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي وشركاتها التي أضحت مؤسسات عملاقة لها حصة كبرى في عجلة الإنتاج الاقتصادي المعاصر.

أما العامل الثاني وراء نجاح بن هنية فتمثل في توافر المستوى الفني الرفيع والجمالي المميز في فيلمها، واستثمارها بذكاء لعوالم الفن التشكيلي وفضاءات المتاحف وصالات العرض الفني التي نجح مدير تصوير الفيلم الطموح، كريستوفر عون، في استخلاص صور طافحة بالجمال منها ترسّمت في الكثير منها لوحات وتحف فنية بارزة".

159 views0 comments
bottom of page