top of page

علاء وهو يتدرب على موته

Updated: Jun 29, 2023


علاء غواص

عندما كتبت عن علاء غواص عام ٢٠٠٨، كنت لا أعرفه حينها، فقط كنت مبهوراً بتجربته الأولى التي صاغها باللغة الإنجليزية شعراً متبنياً المدرسة الغربية في تنفيذ أغانيه لحناً وأداءاً. وكان أداؤه باهراً حينها، حيث طرح هوية واضحة (منذ البداية) لشخصية الصوت الذي سيمثله في رحلته الغنائية. ومنذ ذلك المقال سمح لي علاء بأن أكون قريباً جداً من تجربته الفنية، مما أتاح لي فرصة ذهبية كي ارقب الهّم الإبداعي المتراكم عند هذا الفنان، والقلق الذي يلازمه في تنفيذ أعماله، كما أنه منحني درساً مهماً في كيفية إدارة المشروع الفني منذ الفكرة وحتى الإصدار.


محمد حداد

واليوم وأنا أكتب مقالي عن البوم ”بروفة موت“ أشعر وكأنني أكتب عن تجربة علاء غواص الأولى .. ففي انعطافته المباغتة في الذهاب ( لن أقول الرجوع ) الى اللغة العربية، قرر علاء في رأيي الشخصي أن يرسم طريقاً موازياً لتجربته السابقة وليس مكملاً لها.. شعرياً على الأقل، فطالما كنت ارى بأن الشاعر الذي يسكن علاء مازال ينافس الموسيقي، ويسبقه في أحيان. و إذا أمعنّا الاصغاء في الإرث الغنائي لدى العرب، سنجد بأن حضور الكلمة في ثقافتنا الموسيقية لها التأثير الأكبر على المنتج الغنائي، وهذا ما يجعل هذا الجيل في ورطة حقيقية بما يتعلق بالأغنية، فمع التطور والتنوع الموسيقي الذي ساهم في تشكيل الحركة الموسيقية العربية المعاصرة، إلا أن النص الشعري الغنائي ظل حبيساً لمواضيعه الكلاسيكية منذ عكاظ وغرناطة، بل ازداد فقراً وغابت جرأته.


زياد الرحباني

وهذا ما جعل الكثير من المغنيين يتوجهون الى غناء شعرٍ لم يُكتب للغناء، فقط لأنهم يرون فيه مواضيع تشبه الحرية التي يودون الذهاب اليها، وايضاً ذهب البعض الى كتابة نصوصه بنفسه كي يستطيع الوصول لما يريد، ومع ان كتابة المغني لكلماته لم تكن شائعة بشكل كبير في ثقافتنا العربية، بسبب هيمنة شخصية الشاعر في التراث العربي، الا ان هناك تجارب كثيرة حققت هويتها وهي بمثابة مدارس مهمة للجيل الحالي من المغنين. حيث نجد في النصوص التي غنتها تانيا صالح وزياد الرحباني، و سعاد ماسي، و فرج سليمان، وغيرهم خروجاً شرساً على السائد من المواضيع في نصوصهم الغنائية. كما ظهرت الكثير من الفرق الموسيقية في مصر والأردن وفلسطين التي كتبت أغانيها بنفسها، فصيحة كانت أو دارجة، والتي تعبر عما سكتت عنه الأجيال السابقة. و بما أن علاء اعتاد ان يكتب نصوصه بنفسه منذ البدايات الغربية.. قرر بعد عبوره اللغة أن يحافظ على هويته ويكتب النص الذي يشبهه دون أن يتنازل عن أي حرف.



ففي تجربته ”بروفة موت“ يأخذنا النص في رحلة مليئة بالرمز الداكن والمشحون بالأسئلة التي تواجه كثيراً من الأصنام الاجتماعية وتستفز النواميس التي ساهمت في حجب التدفق الفكري للجيل المعاصر من صناع الأغنية العربية في البحرين والخليج بشكل عام، فيما استطاع صناع الأغنية (البديلة) في بقية دول العالم العربي التمرد عليها وتجاوزها، لكن مازلنا في الخليج نعاني من هذا التكبيل الذي يظهر واضحاً في شكل الأغنية العربية في منطقتنا. استطاعت الحركة الشعرية في البحرين التحرر من هذه الهيمنة الفكرية منذ الستينيات مع ظهور المدارس الحديثة في الشعر لكن ظل الشعر الغنائي أسيراً للشكل والمضمون في ذات الوقت. مما جعل خيارات الملحنين والمغنين تدور في نفس دائرة هذه المواضيع، لولا محاولات بعض الفنانين الذي استعاروا نصوصهم من حرية شعراء الحداثة وما بعدها.


ويذهب علاء في موته هذا بصناعة شعره الخاص ليلائم رحابة أسئلته التي تجاوز بها المألوف ليتكلم عن المسكوت عنه في الأغنية في البحرين خصوصاً، و في مساءلة المسلّمات والمضامين الجاهزة التي نشأ عليها جيله والأجيال التي سبقته. فلعل علاء استطاع أن يفعل ذلك في إصداراته السابقة باللغة الإنجليزية، وناقش من خلالها الكثير من المواضيع الشائكة والمهمة في رأيي الشخصي. لكنه في هذا الإصدار ذهب عميقاً في أسئلة كونية لم يُجب عليها أحد من قبل دون الدخول في صِدام مع المجتمع ومواجهة أمراضه النفسية والتراثية المتراكمة. ففي رمزية نصوصه المغناة في هذا الألبوم منح علاء أسئلته الجريئة و الجريحة ثوباً موسيقياً نادراً يجعلها تتغلغل فينا محاولة إيقاظ ما اهملناه من أسئلة مشابهة وربما أكثر جرأة منها، لكننا نسيناها لفرط الرتابة.



في هذا الإصدار يختبر علاء مجموعة من التقنيات التي تعتبر جديدة علينا وعليه في ذات الوقت، فإذا تجاوزنا مرحلة الكتابة عند علاء الذي حاول فيها ان يؤثث نصوصه كلها برمزية كبيرة ثائراً على سجن التفعيلة (وحريتها) في آن واحد! فنجد الرمز هو سيد النص. ثم يذهب الى مرحلة تلحين النص العربي الذي جاء بنكهة غربية في مجموعة من الاغنيات، لكنه ايضاً اختبر الطعم الشرقي المحايد في مجموعة أخرى من الألحان، وأقصد هنا بالمحايد انه لم يستخدم نغمات شرقية، وهو ما جعل ألحانه قريبة من الأذن والروح دون المبالغة في محاولة إثبات شرقيته.


ونلاحظ هنا في تلحين بعض الأغنيات ظهور حس درامي في بعض الجمل المغناة، يعززها أداءه الذي يتقمص الحالة الدرامية للحن كاستخدامه لطريقة السؤال، والتعجب، والانكسار، والهمس، الى جانب التنهيدات المتعبه قبل وبعد أداء بعض الجمل، فهذه التقنيات تجعل أداء هذا النوع من النصوص أكثر قرباً من المستمع وكأن المغني يتكلم له شخصياً.


ومن التقنيات التي كان علاء ذكياً في استخدامها خصوصاً انه قادم من مكان بعيد عن قوانين الغناء العربي، استخدامه طريقة (الاستعارة) في الأداء الصوتي، وهذا التكنيك في اعتقادي لا يستخدم عند الرجال ممن يغنون باللغة العربية، مما يحرم الملحن العربي - في رأيي- من الانطلاق بحرية في تلحين أغانيه، حيث يلتزم بالمساحة المحدودة لحنجرة المغني، في الوقت الذي لو استعار المغني صوته فسيمنح اللحن طبقة جديدة وشاسعة تسعف التعبير اللحني والأدائي في نفس الوقت، وهذه التقنية يستخدمها معظم المغنين في الغرب ولا يقلل من هوية صوتهم !!


تظل هناك ميزة أخرى في أداء علاء غواص في هذا الألبوم، فبالإضافة الى تسجيله الاغنيات بصوته المنفرد، ذهب غواص الى أداء بعض الاغنيات بصوت مضاعف (أي تسجيل الغناء مرتين بنفس الأداء تقريباً) فنسمعه طوال الأغنية بشكل مزدوج، مما يعطي إحساساً مختلفاً عن الأداء المنفرد. الى جانب أن هذا الازدواج الصوتي من الممكن أن يحوي بعض الدلالات التي تثري الأغنية كما حدث في أغنية ”مشموم“ التي تتناول سيرة الشخص منذ شبابه وحتى وفاته، فازدواجية الصوت هنا تحتمل الشباب والشيخوخة، أو ربما تعكس علاء القادم من الأغنية الغربية والذاهب في الأغنية العربية، أو كما ذكر في نهاية الأغنية ازدواجية الشيعي والسني وهما الصوتين الأكثر حضوراً في المجتمع البحريني، كما تحوي الأغنية ايضاً ما يعزز الازدواجيات كالبيانو و العود (الذي ظهر في هذه الأغنية فقط) في تمثيلهما الغرب و الشرق في ثقافة علاء الموسيقية.


ويظهر في هذا الألبوم صوت الفنانة هند ديتو التي لطالما سحرتنا بصوتها كلما ترنمت بنغمة في رواق أي اغنية تصادفها. وفي هذا الإصدار يظهر صوتها مرة في أغنية ”ضوء الموت“ في جملة الكورس الغنائي بمصاحبة صوت علاء، ومرة اخرى في أغنية ”دم الرمان“ حيث نسمع همهماتها الناعمة في بداية الأغنية مثل ملاك يترنم بلحن في ذاكرته وهو منهمك في رتق ماتبقى من ريش جناحه المنتوف بسبب زيارته الأخيرة لهذه الأرض الشرسة.


المؤلف الموسيقي عيسى نجم

عندما نجم عيسى يضيء الطريق


ومن أهم ملامح هذا الألبوم هو ظهور صوت مختلف ساهم في خلق وتوزيع وتنفيذ جميع الألحان التي رافقت الأغنيات، حيث اشتغل علاء مع المؤلف الموسيقي عيسى نجم الذي منح هذا الإصدار صوتاً مذهلاً وابتكر خامات مختلفة ساهمت في إيصال جميع الأفكار المركّبة والشرسة أحياناً. ففي اعتقادي بأن هذا العمل الغنائي لم يكن تقليدياً في تناوله المواضيع منذ صياغة الكلمة مروراً بالألحان وصولاً للأداء الصوتي، فكان لابد وأن يدخل عيسى كي يؤجج جميع هذه الأفكار المتمردة بابتكار الألحان المصاحبة في توزيع الأغاني واقتراح الهارمونيات المعلقة والناقصة والكئيبة والتجريبية، لتكتمل اللوحة الغنائية بعبثيتها الجريئة، وبما أن نجم متخصص في العزف على آلة التشيللو، فنجد في هذا الألبوم حضور الوتريات الحيّة بشكل ملفت، حيث تتجلى نغماتها في جميع الأغنيات وبطرق عزف متنوعة وباهرة. واشتغل نجم أيضاً على خامات الكترونية جديدة ابتكرها بنفسه كي تنسجم مع الحالات الدرامية التي وضعها غواص في هذا الألبوم. ربما أحتاج الى كتابة مقال منفرد للحديث عن عمل عيسى نجم في هذا الألبوم كي أنصفه، ففي هذا التعاون المميز بين هذين الفنانين نستطيع ان نلمس كيف تكون الصداقة الفنية ثرية حيث يساهم كل فنان بذخيرته الموسيقية كي يظهر منتجاً جديداً لا يشبه إنتاج أي واحد منهما منفرداً.



وطبعاً لا يمكن أن تكون كل هذه الانفعالات والحالات المتناقضة والصعبة موسيقياً أن تتجلى دون أن تمر على منجم المهندس عبدالله جمال كي يصقلها مثل ألماسة ذاهبة لعرس ملكي. ففي كل أغنية نرى رؤاه الصوتية تتفجر كي تمنحنا اللذة الكاملة عند الإصغاء.


وكي نتأكد بأن علاء لا يغفل عن التفاصيل التي يمر عليها في كل مشروع، نراه هنا يقترح أن تكون صورة الغلاف الأمامية للإصدار عبارة عن صورته فقط وهو مغمض العينين، حيث ممكن تأويل هذه الصورة الى موت صاحبها أو ذهابه الى النوم، ونحن نعرف بأن النوم أيضاً ما هو الا بروفة يومية للموت، يمارسها الشخص حتى يتقنها فجأة !


وفي اقتراحه أن تكون الخطوط المستخدمة في عنواين الإصدار والأغنيات مكتوبة باليد، تزيد من حميمية العناوين وتجعلها مألوفة أكثر للشخص. وكي يضفي روحاً اكثر قرباً للتجربة طلب علاء من والدته أن تخط هذه العناوين بيدها كي يبارك هذه التجربة بشيء من رائحتها.


في اعتقادي أن هذا الإصدار بكل تفاصيله الفنية والثقافية والإنسانية، ربما لن يتفق الجميع على نقاط القوة والضعف فيه، لكن الأكيد هو أن هذا الألبوم سيكون مرجعاً مهماً للجيل القادم الذي يسلك درب علاء الموسيقي، ويريد أن يواجه ثقافته ومجتمعه بلغته الأم، لابد وأن يفكك هذا العمل ويقرأه من جديد كي يعرف ماذا يسأل وكيف يسأل، وكيف يختار الرفقة المناسبة، والمشحونة بالحرية كي تؤثث معه تجربته الموسيقية.


وما تبقى لدي من آراء عن هذا الإصدار مازلنا نتحاور حولها أنا وعلاء .. و فاطمة تصغي بحذر !!



13 views0 comments
bottom of page