top of page

مخاتلة!



من خلف جفن مثقل تتبدى في غبش أشباح الجالسين حوله المحدقين به، والمنشغلين عنه في أحاديثهم الجانبية، وهم القادمون بدعوى مجالسته، بالكاد صار يلتقط نتفا من أصواتهم المتداخلة، لتكون همهمات هي أقرب من الكلمات، يميز من بينها أصوات نساء ورجال متشابكة، ولكنها مع ذلك تبدو له مألوفة، سبق له أن عرفها وسمعها وعايشها طويلا، لم يعد ثمة ما يربطه بمحيطه غير هذه الزيارات القصيرة الأسبوعية، فيما تسهر على رعايته، خادمة سريلانكية، عظيمة العجيزة والساعدين، زاخرة بصدر عامر يسند إليه رأسه حين تساعده على النهوض لحظات للانتقال من كرسيه المتحرك إلى سريره المفرد الساكن في ركن الحجرة المنعزلة، هناك حيث الوحدة تخيم عليه عندما يذهب هؤلاء المنشغلون بمشاغلهم اللاهون عنه بعوائلهم وحياتهم، ولعل ما يجدر ذكره هو أن أبنه الأكبر اعترض ذات مرة وبشدة على تلامس جسد والده بجسد الخادمة بهذه الوضعية التي وصفها بالمحرمة، ولكن سرعان ما ألجمه أخوته عندما طالبوه بأن يتولى هو بالذات مهمة توفير البديل!.


يكاد الأب لا يهدأ، رغم الهدوء الذي يلفه في جميع سكناته، في همهماته النادرة، حتى فيما يتصوره ضحكاته العالية التي ترتفع في الجو للحظات ثم سرعان ما تذوي وكأنها لم تكن، كما لو صادرة من شخص آخر غيره، يكاد لا يهدأ في داخله، توتر يسري تحت نهره الساكن ظاهريا للعيان، توتر في القيعان، يثير زوابع لا مرئية ترتج لها دواخله، وما تكاد تصل موجاتها إلى أطراف أصابعه حتى تنحسر وتذوب.


محبوس هو في جسده الذي غدا سجنه الملتحم به، لا فكاك منه ولا انفلات، يشعره بالعجز في كل ثانية، فباستثناء عينه اليمنى التي بقيت سليمة ولم يعجزها الشلل الذي أصاب نصف وجهه ونصف جسده، فأصبحت تلك العين نافذته اليتيمة التي يطل منها على العالم من حوله، والتي يطالبه الطبيب المعالج في زياراته المتباعدة أن يستجيب لتعليماته بأن يغمضها مرتين لكي يؤكد استيعابه وموافقته التي لا تغني، فيما تظل يده اليمنى ترتعش بصورة لا إرادية، هي الحركة الوحيدة التي تبقت له، بعد أن انتكس يائسا من كل شيء، منسحبا من عالمه الذي كان فيه الآمر الناهي، نافضا عنه كل خيوط التماس مع كل أولاده وبناته، فالأم ارتحلت منذ زمن بعيد لم يعد يتذكره، وما عاد يهمه أمر ولا يسترعي اهتمامه شخص أو حدث.


ومع ذلك فإنه أحيانا تنتابه أحاسيس بأنه قد استعاد وعيه بعد غياب طويل، كلا ليس وعيه ما فقده، فقد كان على الدوام واعيا يتطلع حوله ولكنها البلادة التي تحط عليه وتحتجز كل مشاعره، وتحول كل ما يكون ذا قيمة ومعنى إلى فاقد لتلك القيمة والمعنى!، فهو على الدوام يشعر بأنه مساق للموت، وكل ما لديه وما حوله لم يعد يعنيه، هكذا وطد النفس واستسلم منذ مدة.


ولكنه في هذه المرة، ولسبب يجهله، يخامره إحساس غامض بأن هذا الزيارة التي تجاوزت منتصف مدتها، لا زالت تحمل له أمرا استثنائيا، ربما هذا ما فهمه من تكرار ذكر اسم سمية، ابنته البكر التي سافرت للخارج منذ ثلاث سنوات مع زوجها في بعثة دراسية، وحركة تناقل هاتف فيما بينهم وتناوبهم مشاهدة شاشته، وما هي إلا دقائق إلا وسمية تطل من الباب الموارب، وهتاف من في الحجرة باسمها مرحبين واقفين متأهبين لاحتضانها، ولكنها تتجاوزهم جميعهم وتندفع إلى أبيها الجالس على كرسيه المتحرك، وتنحني عليه تحتضنه بذراع فيما تتشبث بالذراع الأخرى طفلة لا يتعدى عمرها العام، تبدأ تبكي فتخطفها الأيدي منها مخلصة الطفلة المتشبثة باستماتة بأمها، يسود الهرج قليلا حتى استطاعوا الهائها عن بكائها، كانت سمية هي الوحيدة التي احتضنته مقبلة وجنتيه التي تبللت بدموعها ودموعه، فالآخرون اعتادوا تقبيل جبينه قبلة باردة لم تعد تنبئ بأي عاطفة.


وبعد دقائق معدودة من أسئلة سمية عن حالة الأب، أجاب عليها أحد أخوتها باختصار، انجرفت هي الأخرى في حوارات متقاطعة تتحدث عن انتهاء بعثتها ونجاحها، وتغرق في لجة تبادل الهموم الحياتية معهم، فيما عاد الأب إلى وحدته بين صخب المحدقين به.


في وسط هذا التجمع، تخلصت الطفلة ذات العام، من الأيدي وبدأت تحبو وحدها حتى اقتربت من الأب الجالس على كرسيه المتحرك، رفعت رأسها إليه، كانت يده اليمنى على ركبته ترتعش بارتعاشات الباركنسون المتوالية، التفت إليها أنظار الطفلة، ابتسمت لما تخيلته دعوة لها لتتقدم، حاولت أن تقوم وترنحت وسقطت، فيما الجميع منشغل عنها، مدت يدها وتمسكت بركبة الأب ونهضت واقفة مستندة إليه، أمسكت بكلتي يديها الصغيرتين يد العجوز، فصارت يداها ترتجفان برجفات اليد المتغضنة، شعرت بالابتهاج للحركة المتراقصة في يديها، أطلقت دفقات من الضحكات، ساد الصمت وتوجهت الأنظار إليها وإلى الأب، الذي أطلق هو الآخر، همهمة كأنها ضحكة مهشمة مختلطة بخوار طالع من أعماق سحيقة منسية، تحلق كل من في الغرفة حولهما في دهشة وحبور، وتفجرت عاصفة من الضحك والتعليقات المرحة، وفيما تألقت عين العجوز بنظرة باسمة، اغرورقت عينا سمية بالدموع وهي تحتضن أباها وأبنتها,




399 views0 comments
bottom of page