top of page

" أن تُسافِر أو يُسافَر بِك"





شتيفان تسفايغ - ١٩٢٦

محطات القطار والموانئ. شغفٌ. يمكنني من الوقوف هناك لساعات منتظرا وصول موجة جديدة من المسافرين والبضائع وهي تغمر بصخبها الموجة السابقة.أحب الشارات، تلك العلامات الغامضة التي تفصح عن موعد الرحلات،الصيحات وهي تتداخل مع الأصوات الهامدة في جوقة الضجيج المألوفة. كل محطة تختلف عن الأخرى، وفي كل واحدة سيحط القادم من بعيد رحاله. في كل ميناء، وعلى كل سفينة، توجد حمولة مختلفة. إنهم من يجلب العالم لمدننا، والتنوع لحياتنا اليومية.

لكنني الآن، وهنا في باريس، أشاهد لأول مرة نوع جديد من المحطات في منتصف الشارع، بلا سقف أو قاعة، ولا تتميز بشئ سوى ما تحتويه من نشاط محموم لا يفتر. إنها محطة الحافلات المخصصة للسفر الجماعي، والتي ستتولى يوما ما مهمة عربات القطار: معهم سيبدأ نوع آخر من السفر، السفر في جماعات ،السفر التعاقدي، أو " تسفيرك".

في التاسعة صباحا تصل الدفعة الأولى من خمسين راكبا، غالبيتهم من الأمريكيين والإنجليز، الي موقع الحافلة. يتكفل مترجم ذو قبعة رياضية بتحميلهم في الباص ليتم نقلهم الي "قصر فرساي"، "قلعة اللوار"، جزيرة "سانت ميشيل"، بل وحتى الي " بروفانس" البعيدة. كل شئ تم التحضير له مسبقا بمنطق رياضي صارم، بحيث لن يحتاج المسافرين الي البحث والتخمين عن أي شئ يتعلق برحلتهم. تنطلق الحافلة متجهة بهم الي مدينة جديدة حيث تتنظرهم وجبة الغداء ( السعر مشمول بالتذكرة)، بالاضافة الي مكان للمبيت ; جميع المتاحف وعجائب المدينة ستكون بانتظارهم لحظة وصولهم.

لا داعي لإستدعاء الحمال، أو حتى إعطائه إكرامية. لكل نظرة، تم تحديد وقت مسبق لها، إذ أن اختيار مسار الرحلة ثمرة لخبرة طويلة في هذا المجال. يالبساطة كل ذلك! لا داعي لأن تقلق بشأن المال،أو تقرأ الكتب،وتبحث عن مكان للاقامة. خلف هؤلاء "المسافر بهم" - ولا أقول المسافرين- يقف الحارس الوصي ذي القبعة الرياضية( نعم لأنه حارس لهم، ووصي عليهم في نفس الوقت)،الذي سيشرح لهم بتلقائية آلية جميع تفاصيل رحلتهم. كل ما عليك فعله هو أن تذهب الي إحدى وكالات السفر تلك،وتختار وجهة رحلتك وتدفع المبلغ المطلوب( شاملا الوجبات والاقامة لأربعة عشر يوما ). سيتم مسبقا شحن أمتعتك الي وجهتك المنشودة، وسيتكفل طاقم من المحترفين باستقبالك في ذلك المكان البعيد. هكذا، وعبر هذه الطريقة سيسافر الآلاف من السياح القادمين من أمريكا وانجلتره. أو سيتم "تسفيرهم" ، حتى أكون أكثر دقة في تعبيري.

أسعى جاهدا لتخيل نفسي يوما ما وسط إحدى هذه المجموعات. سيكون من الصعب إنكار جو الراحة المحيط بالقضية برمتها، إذ يبدو أن كافة أحساسينا سيعاد تنظيمها من أجل أن نشاهد ونستمتع بما نراه . لن يتشتت إنتباهنا بالتفكير المستمر في تفاصيل السفر الاعتيادية مثل البحث عن مكان للمبيت. لا حاجة لنا لمراجعة جداول سفر القطارات باستمرار. لن نضيع عبثا في الطرقات، أو نجد أنفسنا في مواقف تعرضنا للسخرية، أوالغش. لن نتلعثم لجهلنا اللغة المحلية. كل ذلك سيختفي، وعوضا عن ذلك سيتم توجيه أحساسينا لإحتضان كل ما هو جديد .

ولكن هذا الجديد، بعد أن تمت غربلته عبر عقود عديدة من الخبرة سيختزل في نهاية المطاف الي مجرد فضول عابر ، إذ ما سيراه المرء في مثل هذه الرحلات الجماعية هو الضروري فقط. غالبا ما سيفتقد الكثيرون الصحبة الملازمة للسعادة التي لاتكتمل إلا بمشاركتها مع الآخرين . ولكن لأن هذه الرحلات الجماعية عملية ، وسهلة، وغير مكلفة، فإنها قادرة علي تشكيل مسار السفر في المستقبل. لم يعد الانسان يُسافِر، بل يُسافَر به.


ولكن بالرغم من كل ذلك، ألسنا نجازف بفقدان الجانب الأكثر غموضا في السفر وسط هذه الترتيبات المريحة؟


منذ غابر الأزمنة، تحوم حول كلمة "السفر" رائحة المجازفة والخطر; مخاوف تقلبات الطقس; والقلق المضني. نحن لا نسافر حبا في البلاد البعيدة فقط، بل نفعل ذلك أيضا من أجل أنفسنا . نسافر من أجل متعة أن نكون خارج منازلنا، وخارج أنفسنا. نقطع مسار حياتنا الاعتيادية، لنعيش أكثر.

ولكن حين " يُسافَر بك"، عليك القبول بالجديد بدون أن تخوض في استحقاقات التجربة. كما أن كل ما يميز خصائص بلد ما سيفلت منك بمجرد أن يتم توجيهك، ولم تعد خطواتك تسترشد بإله المسافرين : الصدفة. في الواقع، فإن هؤلاء الإنجليز والأمريكيون سيبقون في أمريكا وانجلتره ،حتي وهم يسافرون في تلك الحافلات. نتيجة عدم احتكاكهم بالسكان المحليين فإنهم لن يسمعوا لغة أجنبية، وليس لديهم وعي بخصوصية عادات الناس.

بالتأكيد إنهم سيرون أشياء تستحق المشاهدة. ولكن هناك عشرين حافلة يوميا ترى نفس هذه العجائب.كل منها يرى ما يراه الآخرون، والمرشد المسئول سيقوم بنفس الشرح للجميع. ولكن لا أحد سيتأثر بكلماته بعمق، حيث سيسمعها وسط ثرثرة وأحاديث المسافرين. لن يتمكن المرء أن يكون لوحده حتى يتأمل بعمق في تلك الأعاجيب وإستيعابها روحيا. ما سيأخذونه عند عودتهم سيكون عبارة عن الفخر بأنهم زاروا تلك الكنيسة، أو شاهدوا تلك اللوحة، وهو أقرب الي تحقيق انجاز رياضي منه الي الاحساس بالنضج والثراء الثقافي.

إذا كان الأمر كذلك، فمن الأفضل لنا تقبل الجوانب الصعبة والغير سارة التي تجعل تجربة السفر جديرة بإسمها. يبدو لي أن هناك تناقض دائم بين الراحة (الهدف الذي نصل إليه بدون معاناة) والخبرة المكتسبة بصدق . فما يمنح الحيوية لحياتنا ، وكل ماسنعتبره إنجازا، سيأتينا ثمرة الجهد والمكابدة التي نبذلها للتغلب على الصعاب، وإنعكاس كل ذلك على نضجنا الشخصي. لهذا السبب فإن آلية السفر الحالية التي يتم تحديثها باستمرار تبدو لي خطرة أكثر منها مفيدة، خاصة للانسان الذي لا يكتفي بمعايشة سطحية لكل ماهو جديد، بل يسعى لاستيعابه روحيا وجماليا. عندما تغيب تلك الطاقة الخفية والشعور الملازم لها في سعينا المتوتر لاكتشاف المجهول، فلن يكون هناك شئ اسمه متعة الاكتشاف الغامضة. كلما شابت تجاربنا مسحة من الارتجال، وارتبطت لمحتنا العابرة بنظرتنا المتفحصة، كلما اقتربنا أكثر من حس المغامرة التي ستنطبع في وجداننا لاحقا.

السكك الحديدية الجبلية إنجاز رائع، ففي غضون ساعة ستنقلك الي أكثر العوالم إبهارا. وهكذا بدون أي مشقة كبيرة، سيتمكن المرء من الاستمتاع في استرخاء تام بالمناظر البانورامية المنحدرة تحت قدميه. ومع ذلك، فإن هذا التسلق الميكانيكي للأعلى سيحرم الانسان من الحافز الروحاني، وفوران مشاعر الاعتزاز، المصاحبة لعملية إقتحامنا للمجهول. المسافر بهم محرومون من هذا الشعور الرائع المتأصل في كل تجربة صعود حقيقية. فهم عندما يخرجون محفظتهم في الكشك لدفع ثمن بعض الجولات، فإنهم بذلك لايقومون بدفع الثمن الأعلى; الثمن الأكثر قيمة: الإرادة الداخلية، وشحنة الطاقة الكامنة فيها. الغريب أن هذه القيمة العالية بالذات، هي التي سيتم سدادها لاحقا بأكبر قدر من المتعة. فقط تلك الانطباعات المكتسبة بفعل الأخطاء والهفوات والمضايقات ستترسخ في ذاكرتنا الحية، فنحن لانحب شيئا أكثر من تذكرنا تلك الويلات الصغيرة والمضايقات والأخطاء التي صادفتنا في سفرنا، تماما كما يحدث لنا عندما نقترب من خريف عمرنا ويطيب لنا تذكر مآثر شبابنا وسط تهورنا حينها.

تتبع حياتنا اليومية الآن مسار السفر الآلي علي قضبان قرن يغرينا بتقنياته المبهرة، وهو أمر لا يمكننا منعه، وربما لانرغب في ذلك علي أي حال، لأننا بهذه الطريقة نحافظ علي قوتنا. ولكن السفر يجب أن يكون ضربا من التضحية: التضحية بماهو فائق التنظيم لصالح الصدفة، التضيحة بالحياة اليومية الاعتيادية لصالح ما هو غير عادي. يجب أن يكون السفر الشكل الأكثر حميمية وأصالة لتشكيل أذواقنا والإرتقاء بها .

دعونا نحافظ على هذه الفجوة المتواضعة التي تمنحنا حس المغامرة في عالم يتسم بالافراط في تنظيم كل شئ. دعونا لا نسلم أنفسنا لهذه الوكالات البراغماتية التي ترعانا مثل البضائع، ودعونا نسافر كما فعل أسلافنا، كما يحلو لنا ، نحو الوجهة التي نختارها بأنفسنا. بهذه الطريقة فقط يمكننا اكتشاف ليس فقط العالم الخارجي ولكن أيضا عالمنا الداخلي .


ملاحظة:

كتب شتيفان تسفايغ هذا المقال لمجلة "الفوخن شريفت" الألمانية عام ١٩٢٦ .


180 views0 comments
bottom of page