top of page

اكتشاف " الصوت "







في هذه اللحظةٍ الحضارية، يصبح الصوت عنصراً حاضراً وجوهرياً في الحياة والابداع، الجثة فقط بلا صوت، غير أنالحياة هي صوتٌ في الجسد والروح. لذلك ينشأ الشعر مع الصوت ولا يتنازل عنه، لذا سيكون علينا التشبث بالصوتعندما يتعلق الأمر بالكتابة، فكتابة بلا صوت لا تسعف حياتنا.

الموسيقى هي صوت الشعر وتنفسه الطبيعي. لكنا أيضاً صوت الانسان في الحياة، حتى أن البعض كان يروي عنالأستاذ طه حسين (الضرير) أنه كان يقول لمن يزوره (تكلمْ لكي أراك)، فالرؤية هي التمثيل الفيزيائي للبصر. والموسيقى في الشعر هي التمثيل الفيزيائي للصورة الشعرية.

الصوت في الشعر إسعافٌ للصورة الصامتة. فليس في الشعر صمتٌ كما يزعم التشكيليون، ليس ثمة طبيعة صامتةفي الشعر.

٢


بعد التحولات النوعية في الكتابة الشعرية في العالم، توقف الكثيرون أمام الدعوة لكتابة الشعر بالنثر، وهي دعوةتستعيد، في كل ثقافة، تاريخها الأدبي، بحثاُ عن أسلافٍ لها يدعمون هذه الدعوة. والحق أنها دعوة مشروعة وبحثمفهوم، غير أن ملاحظتي التي قلت عنها مبكراً (منذ ثمانينيات القرن العشرين) تتمثل في المظهر الضعيف المتمثلفي استجداء تزكية الأسلاف في ما يفترض أنه حق في التجديد الفني في الأدب، وفي الشعر على وجه الخصوص. بمعنى أننا نريد أن نثبت للمحتفظين أن تجديدنا مشروع، مدللين بأن أسلافنا قد فعلو ذلك ودعوا أليه. والحق، أيضاً،أننا غير مجبرين على طلب تزكية الجيل السابق لما نذهب إليه من تجديد.

٣


فإذن، كل هذه التحولات هي من الحقوق البديهية لمختلف الأجيال الأدبية، ونتوقع من المحافظين أن يرون فياختلاف الرؤى الفنية لدى الأجيال الجديدة، تحولاً متوقعاً وجديراً بحريته لممارسة ذلك.

ألا يتمنى كل منا لأبنائه أن يصيروا أفضل منه؟ في كل شيء؟

فإذن من باب أولى أن يتمنى أباء الأدب أن يتمنوا ويفرحوا كثيراً عندما يلاحظوا أن جيلاً جديداً في الكتابة أصبحيختلف معهم، ويطرحوا عليهم الأسئلة الصعبة في مسألة الكتابة. بل أنني أعتقد بأنه كلما اختلف الأجيال الجديدةعنا، بموهبة ومعرفة، لابد أن يخالجنا فرحٌ خاص لأن ذلك يعني بأننا تركنا لهم درساً مهماً، جمالاً وفائدة وذا مغزى. لأنهم، (الأجيال الجديدة)، فهموا أن الدرس المفيد يجعلهم يرفضون تقليدنا، وأخذوا يبحثون عن صوتهم وأسلوبهمالخاص الذي يعبّر عنهم فعلاً.

٤


يدخل البدو بخيولهم ساحة العرس، يخوضون في أحضان النساء اللواتي جلسن حول العروس يضعن لها الحنّاء فيالكفين والقدمين، فتطفر أواني الحناء فتصبغ حوافر الخيل، وبتفجر الدم من الأجساد المشدوخة بالحوافر ويسيلعلى الأرض التي كانت ترتعش لفرط المباغتة ووطأة الخيل والفرسان. تصرخ العروس بزوجها المنتظر، لكنه لا يكاديظهر، يعرف لاحقاً أنه لم يكن لرجلها أن يدبّ على الأرض بساقين مرضوضين لفرط وطأة الحوافر خارج الدار. فسمعت صوته منتحباً وهو يزحف مثل كائن مشلول، تركض نحوه، لكن حصاناً طائشاً سوف يدهسها ويفضخ صدرهاويرديها ملطخة بالدم، تعفرُ مثل عصفورٍ مذبوح. وتكون لحظتها النساء قد عرين أجسادهن أمام الرجل في محاولةلإعلان الفضيحة. لكن أجساد النساء العارية أثارت الاحصنة وهيجتها. فأطلقت صهيلاً يشبه العواء وهي تقتحمالأجساد ملتحمة بها بوحشية، حوّلت ساحة العرس مشهداً من أخلاط الأجساد التي صارت بغتة كائنات من البشروالحيوانات، يتفصد منها الدم والعرق، وتفيض بها فيوض الفضة. وعندما تمكن الزوج المنتظر من الوصول زاحفاً إلىجسد عروسه، كانت الساحة قد فرغت من الخيول، وهدأت الأجساد، وسيطرت الوهدة على المشهد. فسمع الزوجفي صدر العروس المتفطّر نبضاً صغيراً مثل قلب جنين في مكانه.


٥


أطفأ قنديل غرفته، ووقف أمام المرآة مكتفياً بالوميض الشاحب الذي يصدر منها. فلمح في صفحتها خيلاً مقبلة فيأفق الزئبق. خيلاً تتقدم من برية كثيفة الغبار، تقترب منه وهو يتقهقر مبتعداً عن طريقها في المرآة، مبتعداً إلى وسطالغرفة، والخيل تقترب، ويرى نفسه مشدوداً على ظهر حصان أرقط، مقيد اليدين خلف الظهر، والقدمين مربوطتانببطن الحصان، حصان يسوقه ثلة من الجند على خيلهم، مغمورين بالغبار الذي يملأ فضاء المرآة والغرفة، وسرعانما يطفر الخيل من المرآة، قافزاً في الغرفة، فيرى نفسه يساق في أسواق المدينة، في هيئة الأسرى، يطاف به بين ناسيجهلون سحنته، ينهره الجندُ كلما حاول الإفلات من حبسة الحصان. فيتألّب عليه ناسُ الأسواق ، ويبدؤون قذفهبالحجارة حتى يسيل الدم من جسده، وهو يحاول أن يذكّرهم بنفسه، غير أنهم في النسيان. لم يكن في حرب، ولمينهزم، فلماذا هو في هذه الحال، وكيف حدث أن نسيته الجموع التي كانت قد ودّعته مسافراً، يحمل رسائلهم قبلأيام. الجنود يسوقونه أسيراً وناس الأسواق تسومه عذاب الحجارة والنسيان. وبعد أن شارفوا على البحر، أثارواالحصان الأرقط، ودفعوا به في الماء. فنهض نافخاً، مثل الملدوغ، من سريره وعيناه محدقتان في المرآة التي كانتمكسورة، ليعرف أنه كان في حلم كاد أن يفتك

٦

قيل له: «يا مبارك الحداد، من أين أتاك الصوت؟»

قال: «إن للحديد سطوة على الروح، ومَنْ يصغي للحديد يسمع. ليست المطارق وليست السندان، ولكن الكفّوالذراع والسواعد، هي التي تمنح الحديد شكله، وبالتالي هي من يجعله ينطق بالصوت ويجهر. كنتُ أنام في الدكانذات ليلة، بعد أن قررتُ المبيت بجانب العِدة التنور، لفرط التعب، وإذا بصوتٍ يوقظني، ويقول لي: انهضْ وامسكمطرقتك وشارك معنا في العزف. كانت كائنات تُحسن استخدام المطارق كما لم أعرف من قبل، كانت تتناول الحديدوتحميه وتطرقه برشاقة المحترف. لم أكن أدرك تماماً من أين تأتي بالحديد، لكنها كانت تخرجه من الجمر ملتهباًوجاهزاً للتطويع والشكل. وفيما كنت منشغلاً بسماع الأغاني التي يطلقونها والايقاعات التي يحدثونها أثناء عملهم،كانت كومة من المسامير الكبيرة والصغيرة، قد تكوّمت في وسط المكان. وعند الصباح وعيت على نفسي منهكاً لفرطالغناء والرقص والعمل. فظننت أنني كنت أحلم لا أكثر. غير أن كومة المسامير التي تعثرت بها ف يوسط المكانشهدت على أن ذلك لم يكن حلماً. هكذا اكتشفت (الصوت) وعرفته، في (الفجر) بعده.

13 views0 comments

Recent Posts

See All
bottom of page