top of page

الشعر...العين الثالثة



"الإنسان كائنٌ لغوي" هكذا قوَض الفيلسوف الألماني "مارتن هايدجر"(1889-1976م) بهذا التعريف، التعريفَ الكلاسيكي السائد للإنسان بأنه "حيوان عاقل". ويأخذ بتعريف الإنسان إلى مناطق أعمق وأكثر اتساعا في فضاء الدلالات. فهو لا يرى كما يرى "الميتافيزقيون" بأن علاقة الإنسان باللغة هي علاقة تواصلية، أي أنها وسيلة تمكن الإنسان من التعبير والتواصل مع الآخرين في بعدها الصوتي بالدرجة الأولى. إذ يرى بأن اللغة هي غير منفصلة عن الوجود الإنساني باعتبارها عربة نقل للمعاني والكلام فقط إلى الآخرين، بل هي في أعقد تمظهراتها وسيلة تنقيب في الوجود الإنساني برموزه ودلالاته باعتبارها غير منفصلة عن هذا الوجود حيث يعبّر عن اللغة بقوله إنها (بيت الكينونة). وبهذه الرؤية يمنح اللغة القدرة على تقويض المباني والمعاني وتفكيكها وإعادة خلقها برؤى ومعان جديدة وفهم جديد يغوص في أعماق الذات ويرتفع به الإنسان إلى سماوات الكشف والمعرفة ليسرق منها ما يتمكن من نيرانها فيعود للكون بشعلته المعرفية المتوهجة مولودا للمرة الثانية!


وعندما نعود حاملين على أكتافنا هذا التعريف "الهيدجري" لارتباط الإنسان باللغة إلى الموروث الديني يقابلنا-بطريقة أو بأخرى – كذلك القرآن الكريم بـ (كن) الإلهية التي تمشي بالتوازي مع المعنى الإنجيلي كذلك في "البدء كانت الكلمة".!

ومن هذا الباب ألج إلى عالم الكتابة الشعرية، وأضيّق الدائرة كذلك عن طريق التركيز على الشعراء الذين يلجون إلى عالم اللغة من خلال هذا المعنى و ذلك لتفاوت الشعراء في رؤيتهم للغة الشعرية‘ فمنهم -وهو السائد- من يتعامل مع اللغة كوسيلة للتواصل والتعبير وإيصال المعنى الذي يختلج في قلبه للآخرين وهو الذي يتكأ -بقصد أو دون قصد- حسيا على التعريف الميتافيزيقي للإنسان واللغة كما ذكرت في بدء المقالة ‘ومنهم –وهم القلة- من يتعامل مع اللغة في الكتابة كوسيلة للكشف و استنطاق الرؤى و تفكيك الرموز وإعادة خلقها لإنتاج دلالات جديدة تقوده وتقود قارئيه إلى معرفة ذاتية وكونية جديدة ورؤية وجودية أعمق يظهرُ الشعر من خلالها في أسمى تجلياته. وهذه الطريقة تمثل عاملا مًشتركا بين الشعراء والفلاسفة .مع الأخذ بعين الاعتبار-كما يرى البعض- بأنّ الشعر يسبق الفلسفة بخطوة في سبر أغوار الوجود سعيا لكشف الحجاب عن معانيه الغامضة، وذلك لسببين: أولا أسبقية الشعر على الفلسفة في قراءتها "الوجدانية" للكون والطبيعة والحدث التاريخي والأسطوري وهذا ما نجده على سبيل المثال (في ملحمة "جلجامش" في العراق والتي عمرها حوالي 2000 سنة قبل الميلاد وملحمة "أقهات " في سوريا التي تمتد إلى 1500 سنة قبل الميلاد وملحمتي هوميروس الشهيرتين "الإلياذة و الأوديسة" اللتين كُتبتا في "القرن الثامن قبل الميلاد" وأخيرا الملاحم الهندية الثلاثة "المهاباراتا" وعمرها يتراوح مابين 200 إلى 400 سنة قبل الميلاد, و ملحمة "رامايانا" المؤلفة من 24 ألف بيت شعري و "وبوراتاس" التي عمّر تأليفها إلى سنة 1000 ميلادية.)*(انظر - مقال (سجال الشعر و الفلسفة) لـ(عماد الدين الجبوري) المنشور عام 2019 م على موقع (اندبندنت, عربية) الالكتروني) و السبب الثاني هو إيمان هذه الفئة من الكتّاب بأن (الذهن ليس كافيا)* للسعي وراء الحقيقة كما يذكر الكاتب والفيلسوف الإنجليزي كولن ولسون في كتابه (اللامنتمي) في معرض حديثه عن الفيلسوف والشاعر الألماني فريدريك نيتشه حيث يقول: ( أضف إلى ذلك أن المشكلة ليست مشكلة فيلسوف, كما أن نيتشه نفسه اكتشف: أن الذهن ليس كافيا. إلا أنه ظل فيلسوفا وظل يهاجم المشكلة بأسلحة فلسفية، بلغة النقد، وتنظيم الأفكار في مقاطع وفصول. إلا أن زرادشت أوضح لنا أين يكمن الجواب، إنه كامن باتجاه السيكولوجي الفنان، والمفكر الذاتي)*



وينقل ولسون كذلك قول نيتشه عندما قرأ مصادفة كتاب (العالم إرادة وتمثلا) لفيلسوف التشاؤم الألماني شوبنهاور: (.. لقد وجدتُ هنا، في هذا الإنكار والتقاعس التي يحفلُ بها كلّ سطر، مرآةً رأيت فيها العالم والحياة وروحي أنا غارقة في عظمة مُخيفة، وشعرتُ بأن عين الفن المفتوحة تحملق فيّ...)* وما الشعر إلا أحد أسمى الفنون التي اتخذها (نيتشه) ذاته طريقة له كذلك.!


وهنا يجدر بنا أن نتساءل، هل جميع الشعراء يشتركون في هذه الخاصية المعرفية؟! بالطبع لا، فهذه الميزة تحتاج كما ذكرت سالفا تغييرا في طريقة تناول الشاعر ذاته للغة ومفاهيمها من الجذور بالإضافة إلى تدريب الحدس الذاتي عن طريق التأمل على رؤية "الرؤى" وهذا ما يحتاج إلى وقت طويل وجهد وصبر عظيمين.!

ينقل كولن ولسون في كتابه (اللامنتمي) عن الشاعر الانجليزي "الرؤيوي" وليم بليك قوله: (إن الشاعر العبقري، هو الإنسان الحقيقي، أما الجسد، أو المظهر الخارجي للإنسان، فإنه مشتق من النبوغ الشعري، بل أن الأشياء كلها مشتقة من هذه الأسس ذاتها، تلك الأسس التي دعاها الأقدمون الملاك، والروح و الملاك الحارس، إن العبقرية الشعرية تُدعى في كل مكان بروح النبوة)*

وينقل عن الرائي والشاعر الفرنسي آرثر رامبو قوله في احدى رسائله لأحد أصدقائه بأنه: (يجب على الشاعر أن يرى رؤى..)* ويضيف (يستطيع الإنسان أن يرى رؤى إذا واظب على نظام مركز يتوصل بواسطته إلى إضعاف الحواس أو تشويهها)* حيث الشاعر هنا عن طريق هذه الرؤية "العرفانية" المتصلة بتدريب الحواس على التأمل الوجودي العميق يلج الحالة الشعرية مُشرعا قلبه لفيوض المعاني وتآويلها العديدة، خارجا منها بروح نبي.


إذن في هذا الحديث المختزل الذي حاولتُ فيه لملمة بعض شتات هذه الرؤية الواسعة رأينا كيف يمكن "للشعر" أن يكون طريقة للمعرفة الذاتية وسبرا لأغوار الكينونة وكيف يمكن للشاعر أن يكون "رائيًا" إذا ما ولج هذا العالم الشعريّ الرحب من بوابة الرؤية "الهيدجرية" للإنسان واللغة كما جاء في مقدمة هذه القراءة.



المصادر:

- كتاب (اللامنتمي) لـ(كولن ولسون)

- مقال (سجال الشعر و الفلسفة) لـ(عماد الدين الجبوري) المنشور عام 2019 م في موقع (اندبندنت, عربية)

-مقال (ماهو طريق مارتن هيدجر إلى اللغة) المنشور في موقع الاتحاد عام 2008م.

171 views0 comments
bottom of page