top of page

تاريخ الأشياء .. الزمن الرابع:قراءة على ضوء المدونات البحرينية المتأخرة



اليوم، وبعد أن مكث لأكثر من سنة على رف كتبي المرجأ قراءتها، أنهيت قراءة كتاب (تاريخ الأشياء) للباحث والصديق الدكتور نادر كاظم، وعلى الرغم من أن الكتاب يقع في مجلدين، يلذ للقارئ مطالعة فصوله ومحتواه الذي يراوح بين السرد والصور والخرائط والوثائق، وجاء كالعادة في لغة شيقة سلسة وراقية في الوقت ذاته، ويمكن التهام صفحاته الـ ٦١٠ في غضون يومين بسهولة!

بالطبع، لا يمكن للقارئ أن يتحول إلى صفحة بيضاء وهو يقرأ عن تاريخ البحرين، لذلك كانت تزاحمني عدة مصادر تاريخية أثناء عملية التلقي، حتى لو كان نمط التأريخ فريداً من نوعه هذا المرة.

انطلق نادر كاظم من التراتبية الثلاثية التي اقترحها المؤرخ الفرنسي فرناند بورديل للأزمنة التي تمثل طبقات تدوين التاريخ، في القاع يقبع "الزمن الجغرافي والجيولوجي"، متحكماً في الطبقتين التاليتين: "الزمن الاجتماعي" المتصل بتاريخ الشعوب والحضارات وتحولات المجتمع العميقة، ثم "الزمن الفردي" أو تاريخ الأحداث والاضطرابات والوقائع السطحية.



وبمعزل عن هذه المستويات الثلاثة من الأزمنة ثم زمن رابع هو "تاريخ الأشياء" أو التاريخ الصغير المعني بأشياء الحياة اليومية، فهو "زمن الشوارع والجسور والأنفاق والمقابر والمعابد والمعالم والمدارس والمكتبات...)، وفي عباب هذا الزمن الرابع يمخر مركب هذا الكتاب، متجولاً ومنقباً في تاريخ شارع الحكومة، وباب البحرين، وجسر المحرق، والمقبرة المسيحية، والمدارس والمكتبات، ونظام الوقت، وغيرها، ولا يستثني حتى الأشياء الصغيرة كالكراسي.

الكتاب موسوعة حقيقية غنية بالمصادر، والتواريخ، والوثائق، والصور، والخرائط، والتقارير الرسمية، يمزجها بمعالجات تحليلية ومقارنات فاحصة وملاحظات نابهة، وليس مجرد توثيق تسجيلي للأشياء والوقائع. وهو يتقاطع مع كتابات سابقة للكاتب ذاته، وبالأخص عمله المائز (لا أحد ينام في المنامة).

والآن، كيف نقرأ هذا الكتاب في سياق أبرز الأعمال التأريخية التي سبقته؟ اسمحوا لي أن أتحدث، بإخلال مقصود، عن موجتين تأسيسيتين من مؤرّخي البحرين المتأخرين، أي خلال القرون الثلاثة الأخيرة.

(تنويه احترازي: النماذج والأعمال والأسماء التي سوف ترد من عندي وليست من كتاب نادر كاظم) في الموجة الأولى، تم التركيز على "تاريخ الأشخاص" وسِيَر النخب السياسية أو الدينية، وهو ما نجد صداه في كتب التراجم السيريّة والإجازات العلمية المدوّنة خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر الميلاديين، بالأخصّ لدى الشيخ سليمان الماحوزي (المتوفى 1709م) في كتابيه (فهرست علماء البحرين) و (أزهار الرياض)، ولدى الشيخ عبدالله السماهيجي (المتوفى 1723م) في كتابه (الإجازة الكبرى)، ولدى الشيخ يوسف البحراني (المتوفى 1773م) في كتابه ذائع الصيت (لؤلؤة البحرين) إلى جانب كشكوله. ورغم تأخره زمنياً، سار الشيخ علي البلادي (المتوفى 1922م) على ذات الخُطا في كتابه الشمولي (أنوار البدرين).

مع ذلك، لا تخلو هذه الكتابات من معلومات جغرافية أو مسارد تاريخية وسياسية واجتماعية، لكنها تقع في حوافّ السِّيَرة، وتطلّ من شقوق التدوين حين يحتاجها المؤلف ويستدعيها لتأثيث سِيَر الأشخاص.

أما الموجة الثانية فربما يكون قد افتتحها الشيخ محمد علي آل عصفور (المتوفى 1945م) بكتابه (الذخائر في تاريخ البنادر والجزائر) الذي فرغ من نسخته الخطية سنة 1901م، وهو كتاب فريد من نوعه، اشتمل قسمه الأول على وصف جغرافي وتاريخي، أعقبتها التراجم، ثم نماذج من التراث الأدبي والشعري.

تتميز هذه الموجة بانتقالها الواعي من تاريخ "الأفراد" إلى تاريخ "الجماعات" والشعوب، إلى جانب الوصف "الجغرافي" الذي يضعه بورديل في الطبقة الأولى من أزمنة التاريخ.

في السياق ذاته، برز أمين الريحاني في كتابه (ملوك العرب) الذي وضعه سنة 1922م، إذ أتى الجزء الخاص بالبحرين منه بمثابة موسوعة تاريخية غنية، يمتزج فيه التاريخ بالجغرافيا والفنون والمشاهدات الشخصية والتسجيلات ذات العلاقة بالنهضة الثقافية، والحراك التبشيري، والصناعات والحرف السائدة.

وربما مهّدت للكتاب الأخير مدوّنة محمد بن خليفة النبهاني الموسومة (التحفة النبهانية) التي كتبها سنة 1912م لترصد التاريخ السياسي الحديث في البحرين، مع بعض التفاصيل الاجتماعية والجغرافية وغيرها.

ويبدو أنّ تاريخ النبهاني الذي دوّنه بطلب من الحاكم قد أثار ردود فعل متباينة، أفضت لظهور كتابات تاريخية أكثر نضجاً بدأت مع ناصر خيري (المتوفى 1925م) بكتابه (قلائد البحرين في تاريخ البحرين) الذي فرغ من تبييضه سنة 1924م، وهو يمزج بين الجغرافيا، وتاريخ الأفراد، وحركة الشعوب، وقد كان خيري واعياً وملتفتاً منذ البداية إلى ضرورة تدوين تواريخ المجتمعات والشعوب والحضارات، وعدم الاكتفاء بأيّام الحكام والدول.

وفي حين كان كلّ من (النبهاني، والريحاني، وخيري) من غير أبناء البحرين، مع استدراك خاصّ بخيري، فقد جاء كتاب (عقود اللآل في تاريخ أوال) لمحمد علي التاجر (المتوفى 1967م)، ليضيف إلى من سبقه وصفاً أعمق وأكثر تفصيلاً للمجتمع البحريني، عبر الجزء الخاص بالقرى والمدن. وحيث إنّ الباب الأخير من الكتاب ينتهي بأحداث 1923، يمكن التخمين بأنه وُضِع بعد هذه الأحداث بفترة وجيزة. أما كتابه الآخر (منتظم الدرين) فينتمي روحاً ومضموناً إلى كتابات الموجة الأولى.

ويمكن إدراج (معجم قرى ومدن أوال وتوابعها) الذي وضعه محمد علي الناصري (المتوفى 1999م) ضمن هذه السلسلة، على الرغم من تأخره الزمني.

وهكذا نجد أنّ الموجة الثانية من الحركة التأريخية البحرينية قد ولّفت بين الطبقات الثلاث من مستويات الأزمنة، حسب توصيف بروديل (الزمن الجغرافي، الزمن الاجتماعي، الزمن الفردي)، لتبدأ في إثرها موجة ثالثة من المؤرّخين المعاصرين، وهم ذوو اتجاهات متنوعة، منهجية، وأكاديمية، وموضوعية، ولا يمكن تقديم حصر مرتجل لهم.

لكن ماذا عن الزمن الرابع الذي اشتغل عليه نادر كاظم في (تاريخ الأشياء)؟

لا شك في أنّ كاظم قد قدّم عملاً كرونولوجياً مهماً للغاية، لم تسبقه أعمال متكاملة وفق هذا المنهج، لكنّ إمعان النظر في بعض الأعمال السابقة تجعلنا نلتزم جانب الحذر من إطلاق أحكام مطلقة، إذ ثمّة كتابات أسبق تضمنت إرهاصات مبكرة حول تدوين تاريخ الأشياء، فعلى سبيل المثال ترك محمد علي الناصري (المتوفى 1999م) مخطوطاً وصف فيه المحار والقواقع والأصداف البحرية، لكنه لم يرقَ لمرحلة التأريخ الزمني على ما يبدو، لكن ماذا عن اهتمامات عيسى أمين بتسجيل ذاكرة (الأمكنة) كالمنامة وذاكرة فن (المنمنات) مثلاً؟ ماذا عن تدوين عبدالله آل سيف (المتوفى 2019م)) ذاكرة (المأتم) في البحرين في مجلدين (صدر أولهما 1995م)؟ وتدوين عبدالله السليطي تاريخ (القلاع في البحرين)؟ وتسجيل حسن السعيد (المتوفى 1994م) في كتابه (العقد النظيم) لبدايات وتطور المدرسة والنادي والأسواق وتقاليد الزواج في قريته بلاد القديم؟ أما تاريخ الإذاعة والمكتبات والصحف والمجلات فقد أتى عليه محمد حسن كمال الدين وخالد البسام وغيرهما، وأما المدارس العلمية فقد تقصاها محمد آل مكباس، ولعل القائمة تطول.

ثمة ما يدفعنا للقول، إذن، إنّ (تاريخ الأشياء) يمثّل الذروة المنهجية في استقصاء الطبقة الرابعة من تاريخ البحرين، حتى لو لم يكن يحرث في أرض بكر، فلم تكن الكتابات السابقة صادرة عن وعي منهجي محكم، ولم تمارس حفراً تاريخياً عميقاً بالقدر الذي قدّمه كاظم في كتابه الأخير، وبهذه الاستدراكات، يمكن التسليم له بالريادة الفعلية.

سوى ذلك، ما الذي لفت انتباهي شخصياً في الكتاب؟ ملاحظتان شخصيتان.

الأولى: هو عنايته غير المعهودة بالشعر، حيث صدّر الكتاب باقتباس شعري من محمود درويش، ولم يخلُ الكتاب من استشهادات واستدعاءات شعرية، ولربما كان يريد أن يخفف من غلواء السرد الذي يسم كتاباته، وربما يحملني التفاؤل قليلاً لتوقع أنه ربما راجع موقفه السلبي من اللحظة أو الشخصية الشعرية كما وصفها في (الشيخ والتنوير)!!

الملاحظة الثانية: بدا لي وكأن نادر كاظم ينظر إلى تاريخ الأشياء في البحرين بعيون (كولونيالية) خالصة! إذ إن أغلب الأشياء والمعالم والأماكن التي كرس كتابه لتعقب تاريخها تمت بحبل سري إلى بطن الحقبة الاستعمارية، وغالبية الوثائق والمصادر يستقيها من ذات المعين، فعندما يتكلم عن الجسور يتحرى جسر المحرق ولا يكترث لردم الكوري، الذي هو محاولة مبكرة لتجسير الفواصل المائية في البحرين، وعندما يتطرق إلى تاريخ المدارس، لا يعير التفاتاً ألا لمدرسة أولاد أمين، لا الهداية الخليفية ولا المباركة العلوية ولا مدرسة الإصلاح، وحين يدرس تاريخ المقابر تجذبه مقبرة المسيحيين التي تعود إلى مستهل القرن العشرين، ولا تثير اهتمامه المقابر الدلمونية ولا مقبرة أبو عنبرة التي تحتضن ساجات أثرية يرجع بعضها إلى 8 قرون خلت وأكثر، وحين يغوص في تاريخ المكتبات يتقصى تاريخ مكتبة الكتاب المقدس التي أسّسها المبشر صموئل لويمر سنة 1893م، ويتعقّب محطات تطوّرها حتى إغلاقها نهاية القرن الفائت، لكننا لا نعرف شيئاً عن تاريخ المكتبات البحرينية التي بدأت بمكتبة التاجر والمكتبة الكمالية وغيرهما! ولا عن تاريخ مكتبة المدرسة الداودية في جزيرة النبي صالح قبل عدة قرون، والتي أوقف أحد العلماء كتبها المنسوخة لطلبة العلم، أما تاريخ الوقت فلن نعرف منه سوى التحول من نظام التوقيت العربي إلى الإفرنجي .. ألا تبدو عيون الباحث عيوناً إفرنجية زرقاء؟!

مع ذلك، لا يجدر بنا القسوة في التقييم، خاصةً إذا وسّعنا مجال رؤيتنا لنتبصّر جملة أعمال المؤلف واشتغالاته السابقة التي تناولت جوانب مختلفة مما ذكرناه.

ربما الآن تمثُل أمام الباحثين الجدد مهمة اقتفاء أثر ما أنجزه نادر كاظم في هذا الكتاب الثمين، واستكمال ما بدأه، فثمة في تاريخ البحرين ما يستحق التقصي والنبش والتأريخ من حيوات الأشياء التي تؤثر على حيوات البشر في النهاية وتعيد صياغتها في حركة دائرية مستمرة، فالأشياء والأماكن نشكلها بأيدينا لتشكلنا بدورها وتعيد صياغة وعينا وحياتنا.

255 views1 comment
bottom of page