top of page

دم أوديب





(أغسطس 1979)

- مسرحية

- فصل واحد

- ثلاث مشاهد

المشهد الأول

لا ستارة هناك.

تبدو خشبة المسرح خالية. عميقة. تمتد، مكوّنة فراغاً هائلاً. فقط يظهر في المشهد سورٌ كبير. يتميز بالطول في العمق، والارتفاع الشاهق في صدر المشهد. يقوم السور في الجهة اليسرى من الخشبة. ينمُّ شكل السور كما لو كان سوراً لقلعة كبيرة، أو أنه على الأرجح، سور إحدى المدن التاريخية. وكل ما حول هذا السور قفرٌ.

صمت.

صمت كأن لا شيء. صمت كأن لا حياة هناك.

"سكون في العشب. سكون في الأدغال. سكون في الغابات. هدوء لدرجة أنه من المخجل أن تفتح عينيك فجأة، وتخطو على الأرض. هدوء لدرجة تبعث على الحزن. هدوء لدرجة تسبب الألم في الظهر. هدوء لدرجة أن النطق بكلمة، يشبه ارتكاب جريمة قتل. الأرض الكثيرة الصياح والصخب، قد أصابها مرض الصمت.

وها هي ترقد الآن طريحة الفراش، ملفوفة بطريقة غير المعتادة، يغطيها دثار من الصمت، يلفها بإحكام.

الدنيا سكون. وكأن الطيور، كل الطيور، قد رحلت عن الأرض واحداً بعد الآخر. كما لو كانت الأرض قد أصبحت متحفاً للصمت، لا صوت فيه.

الدنيا سكون لدرجة أن تذّكر الموسيقى يحتاج إلى بذل الجهد، مثل تذكر سيماء وجه. هدوء لدرجة أنه حتى أكثر الأفكار هدوءاً يمكن أن تسمع من بعيد. هدوء لدرجة أن المرء يريد أن يبدأ الحياة من جديد. هدوء إلى هذا الحد." (1)


المشهد الثاني

نفس المنظر. نفس الصمت.

من طرف السور الأمامي. من جهة اليسار. يظهر فجأة رجل يلهث. يبدو عليه أنه قادم من الركض. يقف. مضطراً. ربما خائفاً. أو أنه مذعور. سيبدو أنه خارج من معركة. تنمُّ ملابسه. هي ليست ملابس بالضبط. لكنها بقايا مهلهلة من ثياب، ولا تنمُّ عن عصر معين. تغطي وجهه سحابة دموية تبدو كجرح جديد يصعب تحديد أطرافه. لكن بالإمكان اكتشاف بؤرته: العينان، ليست هناك عينين. إنه أوديب.

يكون أوديب قد حرّك ذراعيه، حتى لمس جدار السور الكبير. يسند أوديب ظهره إلى حجر سور مدينة "طيبة". يلهث مثل طريدة. تلطخ أسماله دماء كثيرة. كان يركض خارجاً من أمكنة كثيرة، ذاهباً إلى لا مكان. يحدق. بعينين غير موجودتين، في شيء لا يراه. شيء غير موجود. شيء لم يوجد بعد.

يلهث كأنه يستريح ليواصل ركضه المجنون. كأنه يكمل كلاماً متصلاً. ليس كلاماً على وجه التعيين. شيء بين الهذيان والصهيل وصراخ الأطفال حين يولدون.

أوديب: لم أصادف ليلاً طويلاً كهذا. حُفَرٌ صخورُ طُرُقات. تضيق تتسع، تضيق تتسع. ليست أرضاً. إنها الجحيم. كهنةٌ، ملكٌ. كيف يتسنّى لإنسان واحد أن يحكم مدينة بهذا الاتساع. تضيق تتسع. كنتُ ملكها. كنتُ. أعرف الطريق. لا أريد دليلاً الآن. ضائع طوال الوقت. لم يتقدم أحدٌ. الآن، عندما ...

(ينتر ظهره بغتة من حجر السور. يبتعد كمن يهرب من أفعى)

أوديب: هذه المدينة المتوحشة. كل حجر فيها...

(يتحرك بعشوائية بعيداً عن السور. يندفق صوته كمن يستغيث)

أوديب: أيّة آلهة يحلو لها بناء المدن من الدم. أيّة مدن تزدرد أبناءها. أيّة دماء تصرخ. مَنْ يسمع من. لقد.

(يتلاشى صوت أوديب مختلطاً بلهاثه. متداخلاً بصوت محرّك سيارة تقترب. يوشك على التهالك. يكاد يسقط. وحين يسمع صوت المحرّك. يتجاسر قليلاً، ثم ينتبه، ينتصب. يرتفع على طرف قدميه مثل رمح. فتبدو، للمرة الأولى، صلابة قوامه وتناسقه الجسدي، الذي لا يتناسب مع سنه الذي تجاوز الستين. يصغي لحظة، فيبدو كأنه عرفَ الصوت...)

أوديب: أية سيارة أجرة تنتشلني من هذا السور الوحش.

المشهد الثالث

(نفس المنظر. أوديب. الصوت. يظهر من عمق المشهد رجلٌ يمسك عجلة قيادة سيارة، كمن يسوق سيارة. إنه سائق سيارة أجرة. يسير على قدميه. علبة مناديل ورقية مثبتة في عجلة القيادة. أمام السائق. تقترب السيارة فيتوضح الصوت. أوديب يلوّح بيديه منادياً.)

أوديب: تاكسي. تاكسي.

(يقترب السائق، ويتوقف بجانب أوديب. يتحسّس أوديب هيكل السيارة. يفتح الباب. يقف خلف السائق، بمعنى أنه دخل إلى المقعد الخلفي. تتحرّك السيارة. يسيران قليلاً. يلتفت السائق ناحية أوديب)

السائق: إلى أين.

(يلمح السائق حالة أوديب والهيئة التي يبدو فيها)

السائق: هه. ضحية جديدة. هذا الماخور.

(يتناول علبة المناديل الورقية. يقذف بها في حضن أوديب)

السائق: امسحْ دمك. يبدو أنهم وصلوا إلى عينيك أخيراً.

(هنا يتخلّص أوديب من علية المناديل الورقية/ والسائق من عجلة القيادة. يظلان طوال المشهد يتحركان بحرية مع الحوار. الحوار الذي يدور. كأنهما يتحدثان في الموضوع ذاته. كأنهما ...)

أوديب: من يسمع صراخ الدم في مدينة من الدماء. لم يكن أحدٌ يجرؤ. عن أي عينين تتحدث. لم يفعل هذا أحد سواي. بهاتين اليدين. بهذه الأصابع الشجاعة اقتلعتُهما من الجذور. لم يكن أحدٌ يجرؤ على لمْس قدمَيّ. وبهما رفست مدينةً بكاملها.

السائق: هذا الماخور القذر نفسه. هُمْ هكذا دوماً. يستدرجون الزبائن. وحيث يتعتعهم السكر يدبّرون لهم عراكاً، ثم يستولون على ما في الجيب. يصير الزبون ضحية. ما كان لك أن تدخل...

أوديب: حاولت. هربت. هربت. منذ ولدتُ وأنا أهرب. لكأنّ قدري أن أهرب طوال حياتي. وكنت طوال الوقت أركض في فخ. كانت حياتي كلها عبارة عن فخ أركض فيه، أركض إليه. كل شيء مرسوم بإحكام. كأن الجميع كان يعرف اللعبة. الجميع، ما عداي.

(صمت. كأن يتذكر)

بدأتُ بحديدة مغروسة في عظمة القدم. هنا.

(يتحسس قدميه العاريتين الداميتين)

حيث هذا الدم. حيث لا يزال. وها أنا ذا أنتهي بقدمين مرضوضتين أكلَ منهما حجرُ الطُّرُقات. كانتا قدمين ملكيتين. فتسلّط عليهما الجمر الأقسى والأكثر وحشية من الحديد. إلى أي شيء يؤدي الهرب؟ ومن أي شيء كنت أهرب؟ كنت أنا. كان هذا الدم. وذلك الشيء الذي لم أعرفه. كنت أحمله في التلافيف. من يقدر أن يهرب من يديه؟

السائق: ليست يديك. هذه هي مهنتهم. أنت لا تستطيع اكتشافها. لا نستطيع اكتشافها بسهولة. نادراً ما يفشلون في اللعبة. لا تمر ليلة دون أن أحمل ضحية جديدة. يلفظها ذلك الماخور الصحراوي. أحمله هكذا. ببقايا ملابس كأنها الأسمال. بجيوب خاوية. بجسد مرضوض. وبهذيان لا يتوقف. لقد اعتدت الأمر. لا أحد يعرف سر ذلك الماخور إلا من يدخله. ومن يدخله يخرج منه عاجزاً عن فعل أي شيء. عن تذكر أي شيء. يخرج الخارج منه شيئاً غير محدّد. بعضُ إنسان وبعض حيوان. أي ماخور هذا؟ كيف يأمن الانسانُ دخولَه؟

أوديب: لم أكن أنام جيداً. بل لم أكن أنام أبداً. كانت نبوءتهم تؤرّقني مثل كابوس مفزع، متواصل. لم أعرف النوم. حتى إنني نسيت كيف يحلم الناس. لم أكن أطمئن للنوم خشيةَ أن تقع النبوءة في غفلة مني.

(فترة صمت قصيرة)

حتى بعد أن صرتُ ملكاً. لم أثق في استحالة حدوث ذلك.

(فترة صمت قصيرة)

لقد ازداد الأمر تعقيداً. هل رأيتَ ملكاً لا ينام؟ هل سمعتَ عن ملكٍ يهرب؟

السائق: (كمن يواصل حديثه الخاص). لكنهم يؤخذون إليه عنوة. إنه باب ٌ مفتوح في وجه الجميع.

أوديب: لكن أين. أين. لقد كانوا يحيطون بي كالسوار.

كالسوار. كالسقيفة. أولئك الكهنة. يحاصرونني. كالصيادين حول الفريسة. وما أكثرهم. يتناسلون مثل الأرانب. في أزقة المدينة. في أروقة القصر. في شراشف الأسرّة. كانوا أكثر من الخدم. ويضاهون الحرس. جيشٌ من الكهنة. كان القصر يتحوّل معبداً مفتوحاً لهم.

(صمت. فيما يحرك يديه في الهواء. ليرسم اشكالاً في الفراغ.. أشكالاً غامضة)

أما أنا، فيكفي أن ألمح كاهناً لكي أتذكر تلك النبوءة، فيعتريني الخوف، أصير مذعوراً. مجرّد رداء. شبح. أيّ ظلٍّ وراء عمود كفيلٌ بأن يجعل بدني يقفُّ متفجّراً بالدم. لقد كانوا يعرفون كل شيء. كل شيء. وكانوا يمعنون في تضييق الخناق. بصمت. صمت لا يدانيه صمت القبر القديم.

السائق: كأن ذلك الماخور خارج حدود القانون. ينتقي ضحاياه واحداً بعد الآخر. لا تتدخل الشرطة، ولا يقول القانون شيئاً. كلهم يعرفون الماخور، وكلهم لا يقولون شيئاً.

(صمت قصير، ثم باندفاقةٍ ساخرة)

لماذا لا يقولون. ماذا يقولون. كلهم يملكون أسهماً في الماخور. إنه مشروع. مشروع تجاري خالص. البعض يدفع مالاً ليأخذ ذهباً. والبعض يدفع لحماً ودماً وعظماً، ثم لا يكون موجوداً بعد ذلك. كلهم يعرفون. كلهم لا يقولون شيئاً. إنه شركتهم. إنك لن تجد شركة أكثر وحشية وبشاعة من هذه الشركة. لماذا يقولون. ماذا يقولون.

أوديب: أدخلوني تلك الحجرة النتنة المعتمة. وأغلقوها بالصمت. لماذا حدث ذلك؟

السائق: إنهم مشغولون. غارقون في ابتكار الوسائل. للحصول على المزيد من الذهب. ونحن المرشّحون دوماً. نحن المنجم. هه. ومن سوانا. نحن فقط المستهدفون لتحقيق مصالح أكثرَ لهم. هم. هم فقط.

ونظل مرشّحين، مرصودين لنأخذ طريقنا نحو الماخور.

لذلك فإنهم لا يقولون شيئاً عنه. من يقول عن الدم: هذا دم.

ليس سوى الجرح النازف.

السكين لا تتكلم. هي فقط تأخذ طريقها متوغلة في اللحم. وحين يكون الجرح بلا لسان، أي لغاتٍ يصرخ بها الدم؟

من يسأل؟ من يقدر أن يسأل؟

أوديب: أسألُ "كريون"، يقول (إن الدين هو الحصن الأزلي للملك).

أسألُ "تريزياس"، يقول (حين يوجد رجل الدين، يطمئن القلب. إنهم هنا ليزرعوا في نفسك الثقة والأمان. لا تخف منهم).

ولم أكن خائفاً فحسب. كنت فَزِعاً لفرط أرديتهم وهي تحيل النهار ظلاماً. أتخيلهم وطاويط يتنقّلون في ردهات القصر بصورة تدعو إلى الريبة. وأيّ وطواط لا يشتهي الدم؟

(صمت طويل. مواصلاً رسم الأشكال الغامضة في الفراغ)

كان عليّ أن أحسب ألف مرة قبل أن أختار من يرافقني لرحلة الصيد. لزيارة صديق. لأكتشف ثلاثة أو أربعة منهم في هيئاتٍ وملابس مختلفة. كان عليّ أن أحتمل ذلك الوضع، خشية أن أضيعَ، فضعتُ.

احتملت ذلك من أجلها. هي.

(صمتٌ صامت)

نعم. من أجلها

(باندفاقةٍ صغيرة)

آه. كانت تعتقد أنهم يسبغون البركة على القصر والعائلة. كانت منساقة بذهول وراء ذلك العرّاف. الكاهن الأعمى. لماذا عليّ أن أحتمل. لماذا. من أجلها.

(هدوء)

نعم. هي التي. هي. أتذكّر الآن. لم تكن تتمالك عواطفها في حضرة "ترزياس". هل كانت مؤمنة به إلى هذا الحد؟ أيّ تعبّدٍ هذا؟

(ثم في اندفاقةٍ صغيرة كشرارة)

يا إلهي. أية آلهة تلك التي تخلع المرأة؟

السائق: أعرفهم واحداً واحداً. إنها مهنة سائق سيارة الأجرة. حيث تترك لك مجالاَ لأن تكتشف الخفايا. حيث عليك أن تكشفها في ما بعد. واحداً واحداً أعرفهم. أولئك الذين يتظاهرون بالطيبة والطهارة والبراءة. في أرفع المراتب. في قمة المجتمع. في النهار يتقنّعون بتلك الابتسامة الأنيقة. يتحصّنون خلف مكاتبهم الفاخرة. يوزّعون التصريحات لقافلة من الصحافيين. يقولون (كل شيء على ما يرام). يوقّعون الصفقات باسمِ المصلحة العامة.

(صمت)

لكن. ليس كل الوقت نهار. هناك الليل ايضاً. ففي الليل يتجردون من كل ذلك. في الليل يلهثون في الأزقة الخلفية للمدينة. تلك الأزقة التي تتّصل دائماً بذلك الماخور.

أعرفهم واحداً واحداً. في الليل.

أوديب: الليل. الليل فقط. لم يكن هناك غير ذلك. كان ليلاً متوالياً مثل نفقٍ بلا نهاية.

السائق: هناك يحوكون المؤامرة. وحوشاً حقيقية يصيرون في الليل. هذا المقعد الذي تجلس عليه الآن. شهد بشاعاتهم. حين يقبعون هناك. كانوا يعتقدون أنني غائب. ذلك السائق جزء من آلة السيارة. ذلك الثرثار لن يعي شيئاً مما يدور هناك. أصناف كثيرة صادفتها. كانوا يركبون في العتمة الصغيرة. في المقعد الخلفي. خلفي. أولئك الذين يقودون المدينة في النهار. ولعل سيارة الأجرة هي الوحيدة التي تدخل غرفة النوم في كل بيت.

أوديب: كان ليلاً، لكن ليس للنوم. فقد كانت كل الغرف مفتوحة للكهنة.

السائق: في ذلك المقعد. أجرى أحدهم واحدة من أكبر صفقاته. من أبشعها. حيث اشترى حياًّ كاملاً بكل سكانه. هل تصدق. حين قلت ذلك لأحد الأصدقاء، لم يصدق. في الحقيقة هو لم يكن قادراً على حمل حقيقة هائلة مثل تلك. فتظاهر بعدم التصديق. رفض حمل مسؤولية المعرفة.

أوديب: كان يجب أن أكتشف ذلك.

السائق: في هذا المقعد نفسه. كاد أحدهم. حسناً. كيف يمكن احتمال هذا. كاد أن ينفق على ليلة لذة مع. آه. اعذرني إن قلت ليلة لذة مع شقيقته. ماذا يحدث للناس؟ لحظتها. كدت أصطدم بأكبر شاحنة في المدينة. صرختُ. فهرب من السيارة. معها.

أوديب: (دائماً كمن يواصل في سياق آخر من الحديث) لكنها لم تقبل حتى مجرد الحديث في الموضوع. فيما كنت اضطربُ عند ملامسة الفكرة. كانت ترفض تصديق أن مثل ذلك يمكن أن يحدث. وتردّد (دع الموتى موتى). أو (الموتى لا يموتون مرة ثانية) أو (دع الموتى يموتون). لقد كانت تثق في آلهتها.

(صمت. يرسم أشكالاً. يتذكّرها)

أبداً.

(بانفجارٍ يتأجّج)

كانت تثق به. تسلمه قيادها. ذلك العرّاف الأعمى. يقودها كنعجة في أروقة القصر. حيث يختاران الأروقة المعتمة. المظلمة. ليمارسا طقوساً غامضة، لم أكن أفهمها. لا. ربما لم أكن أهتم بمثل تلك الأمور. لكنني كنت ألاحظها حين تعود. تاركة "تريزياس" يذهب. تأتي في حالة من ذهول الممسوسين. وربما كانت مهتاجةً كما لو كانت خارجةً من سرير.

السائق: لكن. من كان يعرف ما الذي يجري خارج السيارة؟

أوديب: كنت أعتقد أن شعوراً عظيماً بالذنب يعذّبها. فأشفق عليها. الآن فقط أتذكّر.

(صمت قصير)

غرابة تلك الطقوس كانت مثيرة فعلاً. وأنا بعيدٌ عنها. بعيداً عنهما. لقد كنت وحدي. وحدي كنت أحمل النبوءة. أحملها مثل شجرة شوكية تحت الجلد. وحدي أحمل عذابها منذ ولدت. وجميعهم كانوا يتغافلون. هي في شبقها الديني. وهو في آلهته الثرثارة. وهم في الكهنوت. كلهم كانوا يعرفون. يتآمرون. لكن.

(هدوء. كمن يستحضر شيئاً)

هل كانوا جميعهم فعلاً؟ لا إعتقد. لا. ليس جميعهم. كان هناك "كريون" كان "تريزياس". الأول يريد أن يحكم، أن يصير ملكاً. والثاني يريد أن يحكم الملك. يريد ملكاً ضعيفاً. ملكاً لا يسأل. ملكاً مثل "كريون". وهناك الكهنة. أولئك الذين يملؤون أحداقي دماً. كان عذاباً مستمراً ذلك المكان. ذلك الزمان. تلك النبوءة التي وُلدت معي. ومعي لا تموت. لم تعد تكتفي بالأسلاف. تريد الأحفاد أيضاً. تأكل كنارٍ في الهشيم. تزدرد النسل.

(صمت. صمت. صمت)

لقد كنت ملكاً خائفاً. هارباً. و"تريزياس" يكمن لي خلف كل عمود في القصر. عند كل منعطف. كان يبتسم بأنيابه وعينيه الفائرتين كأنه الوحش. وكان دمي يختضّ في جسدي من جرّاء تلك الابتسامة المتوحشة. "تريزياس" فقط.

السائق: إن أكثر الوحوش ضراوة لا تداني وحشية السمسار. إنه يقايض على كل شيء وبكل شيء. مستعد أن يبيعك كل ما تريد، في سبيل أن يستنزف بشريّتك، جلدك، لحمك، حتى العظم منك، حتى يطال روحك. حيث اللبّ. ما من وحشيّةٍ أكثر من هذا.

(صمت. تلتقي نظراته بعيني أوديب الغائبتين)

ها أنا ذا أعمل في السيارة. من الفجر حتى الفجر. وخلفي تركض الذئاب. من يُشبِع ذئاباً مسعورة؟

أوديب: أنا أشبعتها.

السائق: إنهم ورائي في كل شيء. من أقساط ثمن السيارة. أجرة المنزل. طعام الأطفال وملابسهم. الضرائب التي تتناسل مثل الأخطبوط. كل شيء هنا يحوّل حياة الانسان إلى حرب.

إنهم يتفرّغون لنا دوماً. يتركون النوم ليحيلوا نومنا إلى كابوس.

قافلة من السماسرة لا تنتهي. تحيط بالإنسان منذ أن يولد. توفّر له كل شيء. تحرمه من كل شيء. هنا الانسان يلهث نحو سرابٍ يصوّره السماسرة نهراً يفيض. نهراً من العسل الأبيض. والماخور لعبتهم الأخيرة. كل سمسار منهم له حجرٌ أو أكثر في هذا الصرح.

من يصدّق سمساراً.

أوديب: أنا صدّقته. بنى حياةً لي.. حياةً من وهْم. وصدّقته طوال الوقت. ربما لم أصدّق أحداً سواه. حياة كبيرة فخمة. حياة ملكية. لكنها مؤسسة على أسطورة. على نبوءةٍ. كذبة بحجم الحياة ذاتها. جعلني أصدّقها. لقد صدقت عرّافاً. كاهناً. وكان "تريزياس".

(هدوء. صمت. يعود ليرسم أشكاله الغامضة)

كان يرسم لي كل حياتي. بخبث الخنجر وغدره. يتسلّح بآلهة لا يراها أحد غيره. من يعلم. هل كان يراها حقاً. أو.. هل كانت موجودة بالفعل. من يجرؤ.

(صمت. يتخيّل. يندفق)

إنه يأتي دوماً محاطاً بقافلة من كهنته. ليقول (إن الآلهة قالت). كأن لم يكن لتلك الآلهة من عملٍ سوى أن تقول. لتخرّب حياة البشر. تدمّرهم. من الجذور حتى النسل.

السائق: في هذه الغابة الخرابة. عليّ أن أطعم أطفالي. وعليّ أن أعتقد بمستقبلهم أيضاً. هه.

أوديب: لقد كان "تريزياس" يتدخل في اختيار أسماء أطفالي. ويقول (إن الآلهة قالت). أيّة فجيعة تلك. حين يكتشف الإنسان أن حياته مربوطة بما لا يُرى. بما لا يُصدّق بكذبة تأسّسَت في الدم الطفل. ولا تموت في الدم الكهل.

(صمت طويل)

أما هي.

(يبتسم بمرارة)

هه. لقد كانت تعتقد حتى العظم أننا محظوظون حين تشاركنا الآلهة حياتنا. إلى هذا الحد. وتردّد عن الأطفال (إنهم ليسوا أطفالنا فقط. إنهم أطفال الآلهة أيضاً).

(بعذاب)

الحقيقة، لم أكن أدرك أيّة آلهة تقصد. لقد كان "تريزياس" أقرب إليها من تلك الآلهة.

السائق: وزوجتي المسكينة. لا تلبس جديداً في العيد. كم هي قويّة هذه المرأة.

أوديب: (هادئاً) أيّ ضعفٍ كنت أحمله في مواجهتها. أغضب كعاصفةٍ على الجميع، وحين تقف أمامي، أتحوّل إلى شيء صغير. شيء صغير يحب. أصير طفلاً لها. كأنني أحقّق النبوءة. أحقّقها بطواعيةِ الخيط في أصابع الناسج. حتى إنها كانت تخاطبني قائلة (يا لكَ من طفل كبير). فأجيبها (نعم يا أمي الصغيرة العزيزة).

هل رأيت ملكاً مثل هذا؟!

كان "تريزياس" يطلق ابتسامته البشعة. تلك الابتسامة التي أفظع من قهقهة الأبالسة. لقد كان هو. هو وراء كل ذلك. هو نفسه الذي هيّأ كل شيء: المُلك والموت.

السائق: إن أسهل شيء هنا هو أن تموت. وأصعب عمل يقوم به الانسان هو الحياة. حين يموت الإنسان هنا لا تحدث ضجة. إنه يموت فقط. لا يسأل عنه أحد. لا يفقده أحد. ولا أحد يهتم. كأنّ شخصاً ذهب إلى السوق ولم يعرف طريق العودة. أو أنه قد تأخّر في النوم. المسالة ليست ذات قيمة.

الموت!! ماذا يعني ذلك؟!

إنهم يهيئون السجون والمقاصل والآلام والأحزان والهموم الكثيرة والأوبئة. بل إنهم يخطّطون للحروب الكبيرة، من أجل أن يموت أكبر عدد ممكن من الناس دفعة واحدة. كل الوسائل متوفرة وليس على الانسان سوى أن يموت فقط. وهو سيفعل ذلك على أيّة حال. وهذا كله ليس مفجعاً.

أوديب: لم يكن بوسعي أن أفعل ذلك وحدي. فهو الذي يحدّد وقتَ المُلك ووقت الموت والحياة. وعليّ أنا أن أملك، وعليّ أن أموت. السائق: لكن أن يعيش الإنسان. أن يحيا. ساعتَها تكمن الفجيعة.

أن يعيش الانسان يعني أن يطالب بحقه في الحياة. هذا الحق الذي لم تتأكّد شرعيّته بعد. وهو ما يحدث الضجة حول هذا الإنسان.

أوديب: عرّافون وكهنة وقضاة. هذي هي الحياة.

السائق: عندهم: أن يعيش الانسان يعني أن يزاحم الآخرين حياتهم. عندهم، الآخرون هم المالكون الأقوياء فقط. وكلُّ ضعيفٍ هو مشروعُ خطر. يهدّد المالكين.

أوديب: أكاد أختنق.

السائق: لذلك تصبح الحياة صعبة. وجديرة بأن تحدث ضجة. تلك الضجة التي كثيراً ما تؤدي إلى نفي وجود هذا الإنسان. إلى سلبه كل شيء. كل شيء. من الجلد إلى البريق.

لكن. هل بإمكان الإنسان أن يتخلّى عن طموحه في الحياة؟ هل هو مستعد لأن يتنازل عن حلمه؟ إذا توفر هذا الشرط، يمكنه أن يحصل على فرصته. مجرد فرصة محتملة: أن يظلّ في العالم.

يظل كعبد. لا يحيا. لا يعيش. يظل فقط. مثله مثل أي حيوان داجن آخر. يظل شيئاً موجوداً بغيره. الآخرون هم الذين يتحكّمون في شكل حياته. هذا العبد. كائن تخلّى عن الحلم. ما قيمة الإنسان بلا حلم؟

أوديب: لا شيء. لا شيء. أعرف ذلك. لقد حلمت حلماً عذّبني. حلماً أحال حياتي أتوناً. كبركان "فيزوف". لم أحدّث أحداً عنه. حلم مزقني، ولم أبحْ به، رجاةَ أن يموت معي. لعلني أموت.

السائق: أعتقد أن على المرء أن يتمسّك بحلمه.

أوديب: حلم أن أقتل شيئاً داخلي. داخل إنسانيتي. كنت أجازف لكي أحقق ذلك الحلم. لولا أن النبوءة.

(باندفاقٍ هادئ. وبفجيعة)

آه. تلك النبوءة كانت لي بالمرصاد. كيف يتسنّى لي أن أحقق حلماً في حالة من الهرب من الخوف. لقد كنت أحلم بقتل الخوف. لكنه تغلَّب عليّ. ها هو الآن يقتلني. كان سلاحي الوحيد الذي حاربتُ به طوال الوقت هو السؤال. كنتُ قوياً بقدرة طرح الأسئلة. أعرف. أن "أبو الهول" لعبة صغيرة خطيرة من صنعهم. لكن اسئلتي أكثر خطورة. ربما لأنها أكثر غموضاً. لم أكن أكفُّ عن الأسئلة.

السائق: إنهم لا يحتملون الفقراء في صمتهم. فكيف حين تبدأ الأسئلة؟

أوديب: لكن "تريزياس" يترصّدني. وحده كان يعرف. وحده كان يشعر بخطورة سلاحي. لذلك لم يغفل عني. بل كان يهدّدني.

أذكر مرةً. قال لي، وهو يرتجف غضباً وابتسامته ملصوقة على شفتيه (عليك أن تحذر من عادتك السيئة. السؤال عن كل شيء. ومعرفة كل شيء).

حقاً. لقد كان يعرف كل شيء. ذلك العجوز الأعمى. لم يكن أحد يستطيع الرؤية مثلما كان ذلك الأعمى يرى.

السائق: لو كنتُ أصغي لتهديداتهم.

أوديب: (مقاطعاً، مستدركاً) لم أعبأ به. لكنه كان يحاصرني.

(صمت. يرسم أشكالاً أكثر غموضاً. تنعكس في صفحة وجهه)

كنت أرى في نوافذ شرفتي أشباحاً. كانت الغرفة مليئة بالمخلوقات المتعجرفة. مخلوقات متصلة به. بكهنته. وفي اللحظة ...

(مندفعاً نحو أشكاله المرسومة في فراغ الهواء)

.. في اللحظة التي كدت أكتشف غموض تلك الآلهة. في تلك اللحظة تماماً. وجدتني أتمرّغ في النبوءة وهي تتحقّق.

وكان يقول (ليس سوى الدم الملكي. الدم الملكي وحده هو الذي ينبغي أن نحافظ عليه نقياً. وليس مهما الوسيلة)

السائق: هذه هي حقيقتهم. المهم هو أن يتحقق صعودهم، ومكوثهم هناك. أن تتجسّد أحلامهم. وهذا لا يحدث إلا على أشلاء الأحلام الأخرى. أحلام الذين يتنازلون عن أحلامهم. أحلامنا. في سبيل هذا، لا تعوزهم الوسائل. فالإنسان. هذا المخلوق الصغير المستضعف، هو لحمة وسائلهم. وعليك أن تتأكّد دوماً أن رأسك لا يزال على كتفيك وأنت بين براثنهم. هكذا. كما يتحسّس البخيل جيبه السري في ثوبه. لم يعد المكان آمناً، ولم يعد الزمان مأموناً.

أوديب: (صارخاً كالمستغيث) كيف يمكن الهرب إذن. وإلى أين. الكون أصغر من نقطةٍ.

السائق: أذكر أحدهم ركب معي هارباً. خائفاً. مذعورا يرتجف. لم يقْوَ يومها على أن يقول شيئاً. فقد كان مذهولاً لما يحدث له. يردّد (إنهم سيذبحونني. سيذبحونني إذا رجعت. سيذبحونني إذا لم أرجع. مثل كلبٍ سيذبحونني). لم يكن يشير إلى أحد بعينه. لكنني فهمت أنه لم يتمكن من تسديد ديونه المتراكمة. كان يتخيل تلك الذئاب الجائعة. الذئاب ذاتها تطارده. وعندما التفتُّ ناحيته بعد برهة، لم أجده. لم يكن في المقعد الخلفي. وكانت السيارة مسرعة. هل بإمكانك تخيل ما حدث وقتها؟!

(صمت. كأنهما يتخيلان شيئاً واحداً)

أحياناً يخالجني شعورٌ بأنهم يحكمون العالم برمته من خلال ذلك الماخور. ألم تلمس ذلك وأنت هناك؟

أوديب: حين تكون هارباً، ليس بوسعك أن تعرف جهات وأمكنة. تكون هارباً فحسب. ريشة في المهب.

السائق: حسناً. المرء لا يستطيع أن يتذكر شيئاً معيناً عندما يخرج. لكن صمتهم عن ذلك الماخور يجعل الإنسان ضئيلاً إزاء ذاته. صغيراً. صغيراً جداً. إذا لم يطرح السؤال الأخير.

هل تصدق أن سيارات الأجرة لم تعد تجازف بالمرور بتلك الناحية. إلا أنني أدمنت تلك الطريق. وإن كنت لم أعد أخشى شيئاً. فقد يكون لدي قدْرٌ لا باس به من الفضول. ربما هو الذي يدفعني للطواف كل ليلة في نهاية جولتي بتلك الطريق. لعلني.

(صمت. يتأمّل في أوديب. يتمعن جيداً في آثار عينيه الميتتين)

حسناً. ماذا سيحدث لي. لم يعد الموت شيئاً مخيفاً في عالم مهدّد بالموت كل دقيقة. كثيرون حذّروني من تلك الطريق. لكنهم لا يقدرون أن يفهموا. فإن تعرف شيئاً جديداً. ذلك أمر مليء بالجاذبية. وحين يكون هذا الجديد متعلقاً بحياتك، بجوهر حياتك، فإنه يصبح أكثر جمالاً. فهذه المهنة شيّقة للغاية. على المرء أن يجرّبها. أن تقود عربة يسهر فيها كل الناس، مسألة غاية في الحميمية والمعرفة.

ما رأيك؟

أوديب: وهذه هي النتيجة. صرتُ وعاء نَتِناً للدم الملكي. وسيلة لأقذر الرغبات التي يمكن أن تخطر ببال إله. ذلك الدم الوحشي المدفوق في عروقي. صار صديداً للجرح البشري الغائر.

(صمت قصير. يرسم اشكالاً. ثم بسخرية)

قال تريزياس (إنها الملكة، وأنت الملك الآن. هي زوجة لك). قالت الآلهة (لا تخف من كهنة المعبد. يوشّحونك بالثقة. بالطمأنينة). قالت الآلهة. قال "تريزياس". صار الدم الملكي. الوحشي. ينغل كالنمل الأبيض في عروقي. اعتدتُ بأنها لذة الانتصار. شهوة المُلك. عبقرية الحكمة. ذروة الحب. قلتُ لابد أن أسال. لابد أن أعرف كل شيء. كان حلمي يعذّبني دون أن أتكلم.. أن أحداً سواي لن يقتل خوفي. أنا فقط القادر على قتله. لكنني لم أعد قادراً بعد ذلك. فقدت قدرتي على السؤال. فقد المُلك بريقه وفعاليته. لقد أحكم "تريزياس" الشباك جيداً. أحاطني بالكهنة من كل ناحية. كنت ألوب كالحيوان المطعون بحربة مسمومة. أرفع قدمي من شرك لأضعهما في فخٍ. وكان يرصدني بعينيه الجهنميتين. ذلك الأعمى. يرقبني بعينين لا يمكن أن ترى مثلهما لبشر. ويطلق ابتسامته الشيطانية.

السائق: أن تكون قائداً لسيارة أجرة. فان ذلك يتضمن قدراً من الخطورة. فسوف تُطارَد أيضاً.

أوديب: "كريون" يتسلل كالحية في اردية الكهنة. يتكلّم قليلاً. ويفعل الكثير. "تريزياس" ينقل طقوسه إلى غرف القصر. إلى أكثر الغرف خصوصية. وقتها لم يكن بوسع المرء أن يميّز بين القصر والمعبد.

(صمت. بيديه، كمن يمسح أشكالاً مرسومة في الهواء)

لقد كان يحلو لها ذلك. مشغوفة بالمعبد والمعبود معاً.

(صمت قصير. باندفاقة ملتهبة)

لم أكن أتقن الصلاة. لا أطيقها. كنت محموماً بالحلم والنبوءة. وحدي. لقد كنتُ وحدي.

وهي. هي الملكة. الزوجة. الأم. الهول. الهذيان. الهوّة الساحقة. كانت مشغولة بإنجاب أطفالٍ مني، أخوةً لي.

(صمت صامت. كمن هالتْهُ الحقيقةُ التي تفوّه بها تواً)

هل كانوا مني فقط؟

السائق: لكن زوجتي تمدّني بطاقة لا حدود لها. حباً وثقة.

أوديب: أما أنا. فلم أعد قادراً على التمييز. يختلط الأمر عليّ. كدخان كثيف في حدقتَي طفلٍ يكاد أن يولد.

(هدوء. يتحسّس وجهه. حين يصل عينيه تقفُّ الأصابع ويسحب يده)

كانت تتآمر ضد نفسها مع "تريزياس". تتآمر لتنسل تاريخاً من الخطيئة. نكتبه معاً، من صلبي ومن ترائبها.

(مندفقاً كشرارة)

كنت وحدي. وحدي أحمل عذاباً أهون منه الموت. عذاب يتصل بالحلم من هنا، وبالنبوءة من هناك.

السائق: بدون المرأة، كيف بوسع المرء أن يواصل حياته؟

أوديب: (كعاصفة) لم تكن امرأة. كانت أمي.

لم تكن امرأة. كانت زوجتي.

ولم أكن مؤمناً بها. كانت هي إيماني. لكن.

(صمت. يهدأ)

لكني. هل كانت كذلك حقاً. هل كانت كل ذلك بالفعل؟

(صمت طويل. ثم كمن يمحو أشكالاً في الهواء)

لم تكن هي. لم تكن. كان هو. هو وحده. وحده الذي يعرف كل شيء. ويفعل كل شيء. الآن أكاد أثق. "كريون". حتى "كريون" لم يكن سوى ألعوبة غبية في يديّ ذلك العجوز القبيح. بل إنني واثق الآن. أن "كريون" كان يجهل اللعبة. أنا متيقن من ذلك. إنه هو. هو فقط.

(كمن يتذكر. فيما يبدأ السائق برسم بعض الخطوط في الهواء)

كيف حدث أن غفلت عن هذه الحقيقة كل ذلك الوقت. كيف حدث أن تركت له كل الأبواب مفتوحة. كلها. لكي يؤسس لنبوءته فرص التحقّق. كأنني لم أكن هناك. لم أكن هناك على الإطلاق. وكأنه كان وحده. وحده بآلهته. بكهنته. بآلته الدينية البشعة.

(صمت. السائق يواصل التشكيل)

أما أنا. فقد كنت قدماً في حلم لا يتحقق، وقدماً في نبوءة تصير. تلك حقيقة بعيدة، وهذه كذبة تقع.

السائق: وهل بإمكان الإنسان أن يكون في كل مكان في نفس الوقت؟! إمّا هنا أو هناك.

أوديب: وحين أحكم حلقته الأخيرة. قال "تريزياس". قالت الآلهة (هاتِ دمك الملكي. أعطِه لسواك واذهب).

لم أكن ساعتها مهيّئاً لأن أسأل: كيف؟!

كنت منهكاً. وكانت شهوة السؤال قد خبَت. كان قد انتزع مني ذلك السلاح منذ زمن. جرّدني من الترس والسيف معاً. بقيت في مواجهة أجوبته الكثيرة التي لا تنقطع. بلا سؤال حقيقي واحد.

ما قيمة الإنسان بلا أسئلة؟

(يبتسم بعذاب. وهو يعيد ترديد سؤال السائق)

هه. قال "تريزياس". قالت الآلهة. هات دمك واذهب. وماذا بقي من الدم أيضاً؟!

السائق: هنا. الآن. ينبغي فضح الماخور. ليس من العدل والعقل والإنسانية أن يسكت المرء. أن يسكت طويلاً عن السؤال. هذا الماخور بالأسئلة يجب أن يُفضح. لقد أخذ يحصد الناس واحداً بعد الآخر. حتى إن دوري لن يتأخر. هل أنتظر لكي أجد نفسي في موقفك؟ ليس في مهنتي ما يغري بالتمسّك بها. أو الخوف عليها. إنها مجرد عربة. وهي ليست لي في الأصل. التاجر يملكها. وهو يسعى الآن ليملكني معها. إنه تاجر. يملك. أنا لا أملك شيئاً. لا أخشى شيئاً. بقدر خوفي من أن يأتي الدور ليحصدني ذلك الماخور الجهنمي. وانا لا أفعل شيئاً. واقفٌ أنتظر.

أوديب: (للمرة الأولى يضحك. ضحكة مشحونة بالعذاب). هاهاهاها. الانتظار! كان عليّ أن أنتظر. أنتظر فقط. لا هرب ولا خوف. أنتظر فقط. فأصير ملكاً. الكل يعرف ذلك. يكفي أن يكون أحد أسلافك ملكاً لكي يأتي دورك. ما عليك سوى أن تنتظر. كل حسب دوره. لكنني لم أفعل ذلك. ركضتُ هارباً. خائفاً من شيء أحمله معي. أحمله فيَّ. في عروقي. هل بوسع الانسان أن يهرب من دمه؟

ركضتُ. ركضتُ. ركضتُ. إلى أن صرت ملكاً.

(صمت. يتحشرج)

لكن اختلف الأمر.

(صمت. كأنه يختلج)

تعقد الأمر أكثر. كثيراً جداً. لقد كنت في الواقع أنتظر. أنتظر بشكل آخر. أنتظر شيئاً قيل إنه سيحدث حتماً. انتظرت دوري دون أن أشعر.

(ينتابه غضب. كمن ينهر نفسه)

انتظرتُ إلى أن أيقظني ذلك الصوت الأعمى نفسه. أيقظني. لا إلى الحياة. لكن إلى الموت.

(يصرخ. كمن يسخر من كل شيء. هنا يأتي صوته واسعاً. تتردّد أصداؤه في الأرجاء. ربما في عالمه الداخلي خصوصاً)

"تريزياس" يقول. قالت الآلهة. هات دمك. "تريزياس" يقول. قالت الآلهة. هاتِ واذهب.

"تريزياس" الآلهة

هاتِ واذهبْ

هاتِ واذهبْ.

السائق: حين تقف. يأتي دورك للمسلخ.

هل. من ينتظر؟!

أوديب: (بصوتٍ مرتعش) تماماً. كمن حان دوري. كمن انتهى دوري. ما الذي كان يحدث حقاً؟

الآن. الآن فقط أطرحُ الأسئلة. الآن الأسئلة القديمة ذاتها. في حين يجب أن نبحث عن أسئلةٍ جديدة.

(صمت. كمن يقاوم شيئاً يتكسّر في أعماقه. والسائق يتوثّب كأنه يكسّر شيئاً)

لكنه كان قد أخذ أسئلتي. أخذ أسلحتي. وأخيراً أخذ دمي. ذلك الدم الملكي النتن. أخذه. كأن وشاحاً ينتقل إلى سواي. كانت نبوءته، ولم يكن حلمي. نبوءته التي أسّسها في عظمة قدمي في الطفولة. ورافقها حتى شبَّت معي. وأتقن تنفيذها.

(صمت قصير)

وأخيراً تحقق له ما أراد: ملكٌ ضعيفٌ، يملكه الكاهن، المعبد، الآلهة.

(صاخباً)

أية آلهة عمياء هذه التي تخيط مصائر البشر وتفتقها. وتدفق أنهار الدم لتُشبِع شهوةَ الحكم عند الكهان والسماسرة. أية آلهة تدفع البشر لارتكاب الخطايا التي لا تليق بالوحوش، لتؤسّس على أشلائها سلطاناً وممالك. أية آلهة دموية تحكمنا ونؤمن بها؟

السائق: (منتفضاً مثل قمة الجنس. مثل عرش الشهوة) إنه الإنسان. هذه هي الحقيقة. كل شيء يكمن في الانسان. هذا المخلوق اللغز الغامض الأليف. الذي مثل طفل يولد الآن. الإنسان هو القادر الوحيد الذي يصنع كل شيء. يعرف كل شيء حين يريد. وحده يصوغ أحلاماً. ووحده يحقّقها. وحده يخلق أوهاماً. ووحده يتجرّع مرارةَ خيباتها. إنه الإنسان. فماذا ينتظر؟! إنه هنا. وليس له أن يقف. ولا أن ينتظر مخلِّصاً يأتي من الأسطورة. من الكذبة.

أوديب: لم يكن هناك من يسأل. كان كل شيء. الجميع يركض نحوَ الدم. يركض في الدم. أي مُلكٍ هذا.

السائق: حسناً. لتذهب السيارة إلى الجحيم إن كنت أعتقد أنها ستحميني من الموت. لأذهب إلى الجحيم إن كنت أعتقد بغير الانسان قادر على دخول الماخور والخروج منتصراً.

(صمت قصير)

لم أعد أحتمل رؤية شخص كل ليلة يخرج من هناك. مهزوماً. شبه مقتول. شخص ممسوخ يلفظه الماخور. ولم يعد الصمت ممكناً. يجب أن تكون أنت الشخص الأخير. لقد سئمت هذا المشهد اليومي. عليّ أن أتدارك. علينا أن نتدارك. وإلا فإن الوقت سيدركنا جميعاً. جميعاً. بدون استثناء. على الإطلاق.

أوديب: ما كان لي أن أتركه حياً. ذلك العجوز الأعمى. الآن فقط.

(يتذكّر. ينكسر بتوجّع)

الآن تذكّرت أحاديث قديمة كانت تدور حول ... يا إلهي. ما أبعد هذه الأمور عن التصديق. هناك. يوم كانت الملكة في انتظار زوجها. عند سور المدينة. زوجها الذي لم يعد. كانا يتبادلان الغزل. هي و"تريزياس". كانت تغازل القاتل. وفيما زوجها يُقتل. كانت هي تقبل على قاتل زوجها... فيما كنت أنحره.

(صمت. يستعيد ما قاله توّاً)

هي و"تريزياس" في اللحظة ذاتها. في اللحظة ذاتها التي كانت نبوءته قد بدأت تتحقّق. وكانت الملكة في النبوءة. منذ ذلك الوقت. الآن فقط أدركتُ الحقيقة التي تنال مني.

هو فقط من يجب أن يدفق دمه. لكي تغيب تلك النبوءة عن وجه الأرض. هو فقط ولا أحد سواه. ذلك الأعمى المسخ. ما كان يجب أن أخرج هكذا، فيما ينجو بدمه. غارقاً في دمي. ما كان.

السائق: ليس بوسع المرء أن يظل سائقاً طوال عمره. لا أريد أن أكون في الغد سائقاً. وستكون أنت آخر زبائني.

أوديب: نحن متساويان الآن.

(صمت قصير)

أنا أعنى أيضاً. لكنني لست عرّافاً. ولا أحمل نبوءة شوهاء. ولم تعد شهوة الملك تغريني. أعمى. لكنني أحمل جذوة ذلك الحلم البشري المتأجّج. لم يخبُ هذا الحلم القديم. ما زال يخفق هنا. (يضرب قبضة يده بصدره) هنا في هذا الصدر الذي سحقه العذاب. لقد سالت دماء غزيرة. هذا صحيح. لكنّ دماءً أكثرَ غزارة سوف تندفع كالنهر في المستقبل. إذا لم توضع نهاية لهذه النبوءة.

هو نفسه قال ذلك. "تريزياس" العراف. قال إن الدماء لن تتوقّف بعد الآن. إنه يعرف أن نبوءته لن تستمر دون أن ترتوي بالدم. مزيداً من الدماء. قالت الآلهة. كما قال "تريزياس".

السائق: لن أحصل على وظيفة بسهولة. لكن لابد لي من التغيير.

أوديب: لكنّ دماً واحداً فقط ينبغي أن يُدفَق. من أجل أن تتوقّف النبوءة عن حياتنا. لكي تكفّ الدماء الغزيرة عن النزف. إنه هو. "تريزياس" نفسه. النبوءة العمياء. الآن. وقبل أن يوضع التاج فوق أردية الكاهن. عليّ الآن أن أزيح الكاهن والتاج معاً عن حياتنا. في حركة كونية ضارية. بمعزل عن المعبد. بعيداً عن الكاهن. متحرّراً من العرّاف. تخلع النبوءة وتطلق الحلم.

السائق: حسناً.

(ممسكاً عجلة قيادة السيارة من جديد. واقفاً أمام أوديب. ملتفتاً ناحية المقعد الخلفي)

.. الآن، إلى أين؟

(مستدركاً بدهشة)

... من أين جئت بكل هذه الدماء؟ إنك تطفو في بركة من الدم.

أوديب: (بصوت جديد) إنه دمي.

السائق: هل نذهب إلى المستشفى؟

أوديب: (صارخاً. متضرّعاً. مفجوعاَ) لا. لا. عدْ إلى هناك. هناك.

السائق: الآن!

أوديب: الآن.

السائق: الآن.

(السائق يدير عجلة القيادة متجهاً ناحية السور. داخلاً. غائباً مع أوديب. في الجهة ذاتها التي جاء منها أوديب في بداية المشهد الثاني)

لم ترفع الستارة

لن تسدل الستارة

------------------------------------------

هامش:

(1) قصيدة (صمت) من شعر "روبرت روز دستفنتسكي"، من مسرحية (الآلة الجهنمية) 1934 من تأليف "جان كوكتو".

71 views0 comments

Recent Posts

See All
bottom of page