top of page

راينر ماريا ريلكه.. رسائل إلى شاعر شاب





كتابة : بولا مارفيللي

بينما هو معتكف في قصر إيطالي، ينتمي إلى القرون الوسطى، ويقع في الساحل الأدرياتيكي، فيما يعكف على كتابة "مراثي دوينو"، الذي عدّه النقاد من أعظم مؤلفاته الشعرية، كان الشاعر النمساوي راينر ماريا ريلكه (المولود في 4 ديسمبر 1875 – والمتوفى في 29 ديسمبر 1926) يتصارع مع مشاعر السوداوية والانقباض والكآبة التي اجتاحته، معترفاً إلى مضيفته ماري تاكسيس: "الأمور يجب أن تسوء أولاً، ثم تزداد سوءاً، متخطية ما تستطيع أي لغة أن تحمله. إني أنسلّ هنا وهناك طوال اليوم في أدغال حياتي، صارخاً مثل إنسان هائج، ومصفقاً بيديّ. سوف لن تصدقي ما يفيض به هذا من مخلوقات مرعبة".

مع ذلك، كان ريلكه يتقبّل بسرور فترات طويلة من العزلة، طوال حياته، بوصفها حاجة ضرورية لعمله الإبداعي، منتجاً أثناء ذلك عدداً من أكثر أعماله الشعرية والنثرية غموضاً.

مع بزوغ القرن العشرين، كان طالب شاب في التاسعة عشرة من عمره، يدعى فرانز إكسافير كابوس (سيصبح مستقبلاً شاعراً وروائياً موهوباً)، يدرس في الأكاديمية العسكرية في فيينا، ولديه محاولات في كتابة الشعر، وقد أراد أن يلتمس النصح والنقد من الشاعر راينر ماريا ريلكه، الذي تخرّج من الأكاديمية نفسها، فأرسل له قصائد كتبها مؤخراً.

ريلكه كان واحداً من أكثر الشعراء الذين يكتبون باللغة الألمانية بروزاً وأهميةً. وكان في أعماله يعتمد على نظريات سيغموند فرويد، حيث تركيز البؤرة على توق الفرد إلى تبادل الأفكار والمشاعر مع ذاته الأكثر عمقاً وإيغالاً. هذه الأعمال كُتبت عندما كان الجنس البشري مبتلياً بالتأويلات العدمية والفوضوية للعالم.



مراسلات ريلكه مع كابوس، المكتوبة من العام 1902 وحتى العام 1908، سوف تبلور حساسية ريلكه الجمالية والفلسفية عبر عشر رسائل تتضمن تأملات ومناقشات في الشؤون الجنسية، في الطبيعة، وحاجة الفرد إلى الثقة بملَكة التمييز الباطنية. إذ عوضاً عن نقد قصائد الشاب، كتب ريلكه آراءه وتأملاته بشأن فن الكتابة، وقوة البصيرة، وشؤون العاطفة الإنسانية.

منذراً بصعوباته الوشيكة مع العزلة الذاتية في خدمة تأملاته الإبداعية، تناول ريلكه في رسائله أيضاً ثيمة العزلة، موضحاً أن الانضباط بالنسبة لأي فنان يعني مقاومة كل إلهاء وإغواء من العالم الخارجي، وبدلاً من ذلك، عليه أن يتجه بعزم نحو الداخل. عندئذ فقط، ما إن نتقبّل، على نحو مطلق، عزلتنا، جسمانياً ونفسياً، حتى يبدأ السحر.

بعد ثلاث سنوات من وفاة ريلكه، أي في العام 1929، جمع كابوس تلك الرسائل العشر ونشرها في كتاب حمل عنوان "رسائل إلى شاعر شاب".

الخلاصة الوافية سرعان ما أصبحت عقيدة لأي شخص يرغب في أن ينال بالجهد المتواصل منزلة في المجال الإبداعي، أن يعيش حياة خلاقة، ليس فقط في الحبس الانفرادي، بل أيضاً أثناء فترات الاضطراب الكلي.


اعتمد على ذاتك في بحثك عن الهداية

في الرسالة الأولى، بدلاً من تقديم النصح والمشورة، قام ريلكه مباشرةً بتشجيع الشاعر الشاب على نبذ كل حاجة لشرعية ومصادقة خارجية لأعماله، والنظر داخل ذاته بحثاً عن الهداية:

"هناك شيء واحد فقط ينبغي أن تفعله. اذهب داخل نفسك، وانظر مدى عمق الموضع الذي منه تتدفق حياتك. اكتشف السبب الذي يأمرك بأن تكتب. تيقّن إن كان يمدّ جذوره إلى أعماق قلبك. اعترف لنفسك ما إذا كنت ستموت إن تم منعك من الكتابة. ثم اسـأل نفسك في الساعة الأكثر صمتاً من ليلتك: هل يجب أن أكتب؟ احفر في ذاتك لتحصل على إجابة عميقة.

عند المنبع ستجد الإجابة على سؤالك عما إذا يتوجّب عليك أن تخلق. اقبل تلك الإجابة، تماماً كما تُعطى إليك، من دون أن تحاول تأويلها. ربما سوف تكتشف أنك مدعو لأن تكون فناناً.

إذا دوّت هذه الإجابة بالموافقة، وإذا استقبلت هذا السؤال بجملة (يجب أن أكتب) قوية وبسيطة، ثم بنيت حياتك وفقاً لهذه الحاجة أو الضرورة، فإن حياتك بأسرها، حتى في ساعتها المتواضعة والأكثر حيادية، لا بد وأن تصبح علامة وشاهدة على هذا الباعث.

خذ على عاتقك ذلك القدَر، احمله، احمل عبئه وضخامته، من دون أن تطلب مكافأة من أي جهة خارجية. المبدع يخلق عالماً خاصاً به، وعليه أن يجد كل شيء في نفسه وفي الطبيعة. وإلى هذا يكرّس حياته بأسرها".



الفن العظيم يستغرق وقتاً

من وجهة نظر ريلكه، لا يمكن أن تتم تغذية الباعث على خلق الرؤية الفنية الفذّة عن طريق القسر والإكراه..

"دع لآرائك وأحكامك صمتها الخاص، تطورها المنظم، والتي هي، مثل كل ارتقاء، يجب أن تأتي من أعماق الداخل، ولا يمكن فرضها بالقوة أو التعجيل بها. كل شيء هو حمْل ثم ولادة.

بترك كل انطباع وكل حالة جنينية، لشعورٍ ما، تصل إلى الاكتمال، تماماً بذاتها، بمعزل عن الأشياء الأخرى، في الظلمة، في ما لا يمكن مساءلته، العقل اللاواعي، وراء نطاق الفهم الخاص للمرء، وبتواضع عميق وصبر شديد في الانتظار حتى الساعة التي يولد فيها وضوح جديد: هذا وحده هو ما يعنيه أن تعيش كفنان.. في فهمٍ كما في خلقٍ".


كما هي حياة الشجرة

ريلكه يشبّه حياة الفنان المتنامية بحياة الشجرة، التي تصمد بصبر أمام المشقة والأذى..

"في هذا، ليس ثمة أي قياس مع الزمن، السنة ليست شيئاً هاماً، وعشر سنوات لا تعد شيئاً. أن تكون فناناً يعني: ليس الإحصاء والمحاسبة، بل النضوج مثل الشجرة التي لا تسرّع نمو نُسغها، وتنتصب صامدة بثقة أمام عواصف الربيع، ولا تخشى، في ما بعد، من امتناع الصيف عن المجيء.

وسوف يأتي الصيف. لكنه لن يأتي إلا إلى أولئك الصبورين، الذين هم هناك كما لو أن الأبدية ممدودة أمامهم، صامتة وفسيحة في اطمئنان. إني أتعلّم ذلك في كل يوم من حياتي، أتعلّمه في ألمٍ أقرّ له بالجميل: الصبر هو الشيء الأهم".

فضلاً عن ذلك، إنها الطبيعة التي تلهم، وتطلق العنان بداخل الفنان للإحساس بالدهشة والرهبة..

"إذا أنت وضعت ثقتك في الطبيعة، في ما هو بسيط في الطبيعة، في الأشياء الصغيرة التي نادراً ما يراها أي شخص، والتي يمكن أن تصبح فجأة ضخمة ولا حدّ لها. إذا كان لديك هذا الحب لما هو متواضع، وتحاول ببساطة تامة، مثل الشخص الذي يخدم، أن تكسب ثقة ما يبدو ضئيل القيمة، عندئذ كل شيء سوف يصير لك أيسر، أكثر تماسكاً، وبطريقة ما أكثر ترويضاً، ربما ليس في عقلك الواعي، الذي يبقى في الخلف، مذهولاً، وانما في إدراكك الأعمق، في يقظتك، في معرفتك".



الحب هو كل ما تحتاجه

الرسائل تتضمن أيضاً ملاحظات وتأملات في الشؤون العاطفية وفي طبيعة وجوهر الحب. الحب ليس عالة أو شيئاً خانقاً، بل ينبغي الاحتفاء به كعامل ملهم نحو العظمة..

"أيضاً من المفيد أن تحب، لأن الحب صعب. لكي يحب كائن بشري كائناً آخر، فتلك ربما المهمة الأصعب الملقاة على عاتقنا، المعهودة بها إلينا. المهمة المطلقة. الاختبار النهائي. البرهان الأخير. العمل الذي بالنسبة إليه كل الأعمال الأخرى هي مجرد استعدادات.

الحب، أولاً، لا يعني اندماجاً، تسليماً، توحّداً مع شخص آخر (إذ ما الذي يكونه اتحاد شخصيْن يفتقران إلى الوضوح، ناقصيْن، ولا يزالان متنافريْن؟). إنه باعث قوي للفرد لأن ينضج، لأن يصبح شيئاً في نفسه، أن يصبح عالَماً، أن يصبح عالَماً في نفسه من أجل شخص آخر. إنها مطالبة قاسية، ضخمة، مفروضة عليه. شيء ما يختاره ويدعوه إلى مسافات فسيحة".

أن تثق بما هو صعب

مما جاء في رسالة له من روما، بتاريخ 14 مايو 1904:

"ولا ينبغي أن تدع نفسك تضطرب وتتشوّش، في عزلتك، بفعل حقيقة أن هناك شيئاً فيك يرغب في الخروج منها. هذه الرغبة نفسها، إن وظفتها بهدوء وحصافة واحتراس، ومثل أداة، سوف تساعدك في بسط عزلتك عبر مسافة شاسعة.

معظم الناس وجّهوا (بمساعدة الأعراف) حلولهم نحو ما هو سهل، وما هو الجانب الأسهل من السهل. لكن من الواضح أننا يجب أن نثق بما هو صعب. كل شيء حيّ يثق بذلك. كل شيء في الطبيعة ينمو ويدافع عن نفسه بأية طريقة يستطيعها، وهو تلقائياً يحاول أن يكون نفسه مهما كلّف الأمر وضد كل معارضة. نحن نعرف القليل. لكن لأننا يجب أن نثق بما هو صعب، فإن ذلك اليقين سوف لن يتخلى عنا. من المفيد أن تكون منعزلاً، ذلك لأن العزلة صعبة".

في الصمت نجد أنفسنا

في رسائله الأخيرة، يعود ريلكه إلى ثيمة موقع الجنس البشري في الكون وأننا، في آخر النهار، جميعنا نكون في النهاية وحيدين. مع ذلك، ممسوسين بمثل هذا الفهم، نحن لا نستطيع في الواقع أن نكتشف الاحتمالات اللانهائية داخل أنفسنا، وفي علاقتنا بالآخرين..

"في الحديث ثانيةً عن العزلة، يتضح أكثر فأكثر أن هذا، جوهرياً، ليس شيئاً يمكن للمرء أن يختاره أو يحجم عنه. نحن منعزلون. باستطاعتنا أن نضلّل أنفسنا بشأن هذا، ونتصرّف كما لو أن ذلك غير صحيح. لكن كم سيكون أفضل بكثير لو اعترفنا أننا وحيدون. نعم، حتى لو بدأنا من هذا الإدراك. هذا بالطبع سيسبّب لنا الدوار والتشوّش. ذلك لأن كل المواضع، التي اعتادت أعيننا أن تستقر عليها، تُنتزع منا، ولا يعود هناك أي شيء قريب منا، وكل ما هو بعيد يكون بعيداً على نحو لامتناه.

الشخص الذي يُنتزع من غرفته ويوضع، من غير استعداد أو انتقال، على قمم سلسلة جبال شاهقة، سوف يشعر بشيء كهذا: انعدام أمان لا يجارى، استسلام للمجهول أو المتعذّر وصفه.. وهذا الشعور قد يمحقه ويبيده.

هو سوف يشعر بأنه في حالة سقوط، أو يظن بأنه مقذوف نحو الفضاء، أو ينفجر وتتقطع أوصاله إلى ألف قطعة. يا لها من كذبة كبيرة تلك التي يتعيّن على دماغك اختراعها من أجل إدراك وتفسير حالة حواسه.

هكذا تتغيّر كل المسافات، كل المقاييس، بالنسبة للفرد الذي يصبح منعزلاً. العديد من هذه التغيّرات تحدث فجأة، وبعد ذلك، كما الحال مع الرجل الموضوع على قمة الجبل، تنشأ تخيلات غير عادية ومشاعر غريبة، والتي يبدو أنها تنمو خارج نطاق كل ما هو ممكن احتماله. لكن من الضروري لنا أن نجرّب ذلك أيضاً. يجب أن نقبل واقعنا برحابةٍ قدر المستطاع. كل شيء، حتى الجديد، الذي لم يسبق أن حدث مثله، لا بد أن يكون ممكناً داخله.

هذا في النهاية هو النوع الوحيد من الشجاعة المطلوبة منا: الشجاعة على مواجهة التجارب الأكثر غرابةً، الأكثر فرادةً، المتعذّر تفسيرها أو تعليلها، والتي قد نمرّ بها. حقيقة أن الناس، من هذه الناحية، قد اقترفوا بوضاعة إساءة غير محدودة ضد الحياة. التجارب التي سميّت مظاهر، وصُنفت ضمن العالم الروحي، الموت، كل هذه الأشياء المتصلة بنا إلى حد بعيد، قد دُفعت تماماً خارج الحياة، عبر موقفنا الدفاعي اليومي، إلى حد أن الحواس، التي بها ربما نكون قادرين على الإمساك بها وفهمهما، قد نالها الضمور.

لكن الخوف من المتعذّر تفسيره أو تعليله لم يُفقر واقع الفرد، ويسلبه القوة والخصوبة فحسب، بل أيضاً قلّص العلاقة بين الكائن الإنساني والآخر، والتي اقتُلعت من مجرى نهر الاحتمالات اللانهائية ووُضعت في مكان هاجع على الضفة، حيث لا شيء يحدث.

ذلك أنه ليس فقط التراخي والكسل اللذين يجعلان العلاقات الإنسانية تتكرّر من حالة إلى حالة برتابة وضجر لا وصف لهما. إنه الجبن قبل أي تجربة جديدة، لا يمكن تصوّرها، والتي لا نظن أننا قادرون على التعامل معها.

لكن وحده الشخص الذي هو مستعد لأي شيء، الذي لا يقصي أي تجربة، حتى تلك المبهمة التي لا يُسبر غورها، سوف يعيش العلاقة مع شخص آخر كشيء حيّ، ناشط، وهو نفسه سوف يسبر أعماق كينونته الخاصة".



حفر أعماق الذات

في رسالته الأخيرة، ناشد ريلكه الشاب كابوس أن يحفر عميقاً داخل أعماق ذاته من أجل ملامسة السكون الكليّ المعرفة للحياة نفسها..

"لا بد أنه هائل هذا الصمت الذي فيه متسع للأصوات والحركات. وإذا اعتقد المرء أن حضور البحر البعيد، جنباً إلى جنب مع كل هذا، يدوّي أيضاً، ربما مثل النغم العميق في هذا اللحن الموجود قبل التاريخ، عندئذ لا تتمنى إلا أن تدع العزلة العظيمة، بثقة وصبر، أن تؤثر فيك.. هذه العزلة التي لا يعود من الممكن محوها من حياتك. العزلة التي، في كل ما هو مدّخر لك كي تختبرها وتفعلها، سوف تمارس تأثيراً مجهولاً، حاسماً على نحو متواصل وبلطف، مثلما دماء أسلافنا تتحرك فينا باستمرار وتمتزج بدمائنا لتشكّل الكائن الفذ، غير القابل للتكرار، الذي نكونه في كل انعطافة في حياتنا".

المصدر:

The Culturium, 22 October, 2015

108 views0 comments
bottom of page