top of page

"سيرة بانيان البحرين" آخر اصدارات المفكر البحريني نادر كاظم



عن دار سؤال «اللبنانية» صدر مؤخراً للكاتب والمفكر الدكتور نادر كاظم كتاب «من تاتا إلى البحرين: سيرة بانيان البحرين» وهو أول مرجع يؤرّخ لوجود «البانيان» في البحرين وبلدان الخليج.

ليذهب مؤلف الكتاب في مفتتح كتابه لتعريف مفردة «البانيان» على إنها«كلمة سنسكريتية تعنى "تاجر"، لكنها أصبحت اسم عَلَم على جماعة هندية/هندوسية جاءت من غرب الهند، من السند وغوجيرات تحديدًا» ليصفها بالجماعة التجارية الهندية الأهم والأقدم التي اتصلت بأسواق الخليج منذ قرون حتى اليوم، وتركت بصماتها العميقة في معظم نواحي حياة الناس في الخليج (في اللغة، والطعام، والمعمار، والأدوات الحديثة...إلخ). وفي البحرين منذ القرن التاسع عشر حتى النصف الأول من القرن العشرين.



وكعادته في سبر أغوار السرديات التاريخية للمنطقة وببراعة بحثية منقطعة النظير في اقتناص التفاصيل، وتقديمها في شكل يمنحها صبغة الرواية بحيث تكون أكثر امتاعا واقرب للمتلقي، ليبدأ كتابه بسردية وصفيه للورد جورج ناثانيال كورزون وهو سياسي بريطاني شغل منصب الحاكم العام للهند في الفترة ما بين 1899 و 1905 و وزيراً لخارجية بريطانيا خلال الأعوام 1919 حتى 1924، تحدث خلالها عن التكوين السكاني بالغ الثراء والتنوّع في مدن حوض الخليج العربي في العام 1889.


وقد أوردها الكاتب في مقدمة كتابه على النحو التالي: "قبل مغادرة الخليج، اسمحوا لي أن أصف الذكرى الأخيرة التي طُبِعت على شبكية العين من ذاكرة المسافر. يقدّم السطح الأمامي للباخرة الخليجية واحدًا من أكثر المشاهد فضولًا التي يمكن تخيّلها. لقد رأيت العديد من التكتّلات الغريبة من حيث اللون والعرق واللغة والدين، ولكن نادرًا ما تكون أكثر تنوّعًا من هذا الذي رأيته في الخليج. رأيت العرب بكوفية حريرية ملطّخة ورباط رأس الجمل [العقال]، ورأيت تاجرًا فارسيًا يحمل خيوله إلى بومبي، ويخرج الفقاعات من غليونه الخالد؛ ورأيت مسلمين يحجّون إلى الأماكن المقدّسة عند السنة أو الشيعة، ويؤدّون صلاتهم ...؛ ورأيت الهندوس الأرثوذكس يتوضؤون في زاوية من الزوايا، أو يطبخون الطعام الذي لا يجوز لأي شخص آخر أن ينجسه عن طريق الاتصال؛ كما رأيت أتراكًا سمينين يحتسون قهوتهم الخفيفة؛... وتجارًا بارسيين يرتدون ملابس مصنوعة في بومبي ومشكوك في كونها قِطَعًا إنجليزية الصنع؛ ورأيت البانيان الهنود يرتدون سراويل قطنية بيضاء ضيّقة بشكل غير طبيعي، مع قبعات مطرّزة بشكل ناعم، ومعلّقة جانبيًا على رؤوسهم؛ وبلوشًا ملتحين، وأفغانًا بخصلات شعورهم السوداء والشعثاء وهي تتلّوى على أكتافهم ... وبشتونًا بصدريات من جلد الغنم،... وبنطلونات بيضاء فضفاضة، وطوائف مهجّنة مع البرتغاليين، ..؛ وواحدًا أو اثنين من الزنوج، مع تباين لامع للجلد والأسنان؛ رأيت رجالًا سودًا، وآخرين بألوان نحاسية وصخرية وغبارية وبيضاء، ورأيت رجالًا بحلقات من الفضة حول أصابعهم الكبيرة ومشابك من اللؤلؤ في آذانهم، ورجالًا يرتدون ملابس كاملة، وأناسًا نصف عراة، وآخرين شبه عراة ... - لا يمكن، بالتأكيد، تصوّر دراسة أكثر فضولًا من هذا المشهد متعدد اللغات والألوان“.


تجار البانيان مع تجار اللؤلؤ في المنامة في العام 1902

ليضيف بأن كرزون، كان يرسم في هذا المقطع الطويل نسبيًّا، المشهد متعدد الثقافات والديانات والألوان الذي كان يميّز التركيبة السكانية في مدن الخليج الساحلية خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وهي تركيبة بالغة التنوّع والثراء، وكانت علامة دالة على مدى انفتاح هذه المدن والموانئ وتسامحها وازدهارها التجاري آنذاك. وتشاء الصدف أن يتعيّن كرزون في أواخر العام 1898 في أعلى منصب بريطاني استعماري فيما وراء البحار آنذاك: نائب الملك والحاكم العام في الهند البريطانية، الأمر الذي يعني أنه سيصبح المسؤول الأعلى عن المقيم السياسي البريطاني في الخليج، وعن الوكلاء والمعتمدين السياسيين المحليين والبريطانيين في مشيخات الخليج ومحمياته متعددة الثقافات التي رآها في العام 1889. وبعد خمس سنوات من استلام مهامه في الهند، قرّر اللورد كرزون القيام بجولة غير مسبوقة إلى مشيخات الخليج والمحميات الواقعة تحت النفوذ البريطاني في الخليج بغرض تأكيد السيطرة البريطانية الحصرية على هذه المنطقة بضفتيها الفارسية والعربية. بدأ الترتيب للجولة في أغسطس 1903، لكنها لم تبدأ فعليًّا إلا في 16 نوفمبر 1903. انطلق كرزون وأسطول سفنه المرافقة من كراتشي إلى مسقط التي وصلها بعد يومين من انطلاق الجولة، ثم زار، بعد مسقط، أغلب مدن وموانئ الخليج من الشارقة وهرمز وقشم وبندر عبّاس وهنجام وباسيدو ولنجة حتى وصل البحرين عند الساعة الثامنة صباحًا من يوم 26 نوفمبر 1903. لم يترك الرجل المكتنز أبهة وغرورًا سفينته حتى بعد الظهر. وخلال هذه الفترة استقبل على ظهر سفينته كلًّا من الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة، وليّ العهد آنذاك، ووزير الحاكم في البداية، ثم الشيخ عيسى بن علي آل خليفة، حاكم البحرين آنذاك. بعد ذلك تواضع الرجل قليلًا، وقرّر النزول من سفينته الملكية، وذلك من أجل القيام بجولة سريعة وغير رسمية في المنامة. إلا أن الوصول إلى شاطئ المنامة استغرق ساعة ونصف، فيما استغرقت العودة من الشاطئ إلى السفينة ساعتين. وآنذاك لم تكن فرضة المنامة قد أنشئت بعد (كان كرزون قد أصرّ أثناء الزيارة على ضرورة تحسين ميناء المنامة)، وكان الوصول إلى الشاطئ مسألة في غاية الصعوبة.


صالة الصلاة القديمة في المعبد الهندوسي في المنامة في العام 1962

ليكمل المؤلف سرديته بالإشارة إلى ان اللورد كرزون بقي في البحرين يومين فقط، وخلال هذين اليومين لم يغادر سفينته الملكية هاردينج إلا مرة واحدة لمدة سويعات قليلة زار خلالها مدينة المنامة، وشرب القهوة وتطيّب بماء الورد والبخور في دار الاعتماد البريطاني حديثة الافتتاح آنذاك، ثم عاد إلى عرينه في سفينته. بعد عودته تسلّم خطابًا موقّعًا من عشرة من كبار التجار الهندوس في البحرين وبالنيابة عن جماعة البانيان في البحرين. كان الخطاب قد كُتب في 2 نوفمبر 1903، أي قبل وصول كرزون إلى البحرين بأربعة وعشرين يومًا. ويقول الخطاب:

"نرجو أن يسرّ فخامتكم أنه يشرفنا نحن الموقعين أدناه التجار الهنود المقيمين في البحرين أن ننتهز مناسبة زيارة فخامة اللورد الى لؤلؤة جزر الخليج لنقدّم إليكم ترحيبنا القلبي باسم جماعتنا.

نرجو أن تكونوا قد قضيتم رحلة ممتعة في طريقكم الى الخليج، وأن تكون إقامتكم القصيرة هنا مرضية لفخامتكم، ونتمنّى أن تكون رحلة العودة مصحوبة بالسلامة والراحة. ونحن نعتبر أنفسنا قد حظينا على نحو خاص بهذا الفخر بأن نحظى بفرصة لقاء فخامتكم، كما أن الخليج لم يتشرف من قبل بزيارة من نائب الملك في الهند. ولما كنا نعلم أن لفخامتكم اهتمامًا دقيقًا بالمسائل التي تؤثر على الخليج والشرق عمومًا فإننا نرجو بإخلاص أن تكون هذه الزيارة بشير سعادة وغبطة وسلام في الخليج.

كما نلتمس أن نعبر عن اعترافنا بالجميل للبركات المتعددة التي حصلنا عليها من الحاكم البريطاني العادل والرحيم. ونرجو أن يكون قد بلغ علم فخامتكم أيها اللورد أننا قد حللنا في الخليج منذ حوالي مئتي سنة مضت، حيث لم يكن باستطاعة السفن البخارية أن تزور الخليج، وكانت كل الأعمال تسير بالقوارب الشراعية في ظروف شاقة غير مجدية، إلا أن الوقت تغيّر الآن، وجلبت الحماية البريطانية بركانها المعتادة - السلام والأمن والرفاهية - التي انعكست على الثقة العظيمة بالمشروع والحضارة البريطانية في الخليج.

إننا لا نرغب في الاعتداء بغير لياقة على وقت فخامتكم الثمين، إلا أننا نسمح لأنفسنا أن نجرؤ بكل تواضع على طرح مسألة أو مسألتين لهما أهمية حيوية واعتبار هام لتجارة البحرين. ان هذا الميناء بموقعه الطبيعي يعتبر محطة عظيمة الأهمية للتجارة، كما أنه المركز التجاري لأسواق الأحساء والعقير والقطيف وقطر وما يليها من بلاد، ولزيادة سرعة التجارة في هذا الميناء فإن إقامة رصيف داخل البحر لهذا الميناء يعتبر أمرًا في غاية الضرورة، من أجل أن تتمكن الصنادل البحرية من العمل في كل الأوقات وفي أي مدّ ومما يزيد من سرعة تفريغ السفن التجارية. ولذا نرجو بكل احترام أن ينال هذا الطلب لطف عنايتكم.


للورد جورج ناثانيال كورزون

في العام 1864 أقمنا علاقات تجارية مع القطيف وقمنا بأعمال كبيرة هناك، ونحن نتمتع في الخليج عمومًا بالاحترام وبعض الهيبة، ولكن نتيجة لسوء الحكم في القطيف فإننا لا نعاني فقط من سوء التقدير، بل تعرضنا أيضًا للخسارة الفادحة، والإساءة. وفي العام 1895 هاجم قراصنة واحدًا منا واعتدوا عليه وآذوا يده اليمنى وسلبوا منه لؤلؤًا بقيمة 40 ألف روبية. وقد ساقتنا أوضاعنا غير المحميّة هناك إلى وضع غير مجد، واضطررنا في النهاية الى الانسحاب من القطيف. ومنذ أن تمتعت البحرين بطمأنينة فوق العادة وبمنافع تجارية عظيمة، جاء كل من التجار العرب والفرس وسكنوا هنا. ولهذا نشأت منافسة حادة تحتم علينا الآن أن نبحث لنا عن مجالات أخرى. وإننا متشوقون للإسهام في تجارة قطر والقطيف الناميتين، ونرجو من فخامتكم أن تعينوا موظفين في هذين الميناءين حيث لا يوجد فيهما ممثلون لحكومتنا، وفي حالة ما إذا كان هذا غير عملي، نرجو توسيع سلطة الوكالة السياسية في البحرين لتشمل هذين المكانين.

وفي الختام إننا نصلي إلى القدير أن يبارك ويطيل في عمر صاحب الفخامة جلالة الملك الإمبراطور، الذي بفضل حكمه الكريم تمكنا من العيش هنا بسلام ورخاء، ونرجو بكل إخلاص لفخامتكم أيها اللورد إقامة سعيدة وجهدًا موفقًا وحياة مديدة

ويشرّفنا، يا صاحب السعادة، أن نكون أكثر خدّامك طاعةً،

وبالنيابة عن جماعتنا،

تولسيداس بيرسرام

أوكومال بتامبرداس

تولسيداس سواميداس

ميثرام شاندومال

تيكشاند دواركاداس

فيرسيمال إهليارام

كنكارام تيكمداس وشركاه

لخميداس ثافرداس وشركاه

راتنشاند شفكرام وشركاه

بيرسرام دامودرداس وشركاه

البحرين

2 نوفمبر 1903".


خطاب التجار الهندوس في البحرين إلى اللورد كرزون بتاريخ 2 نوفمبر 1903. المكتبة البريطانية/مكتبة قطر الرقمية، سجلات مكتب الهند، ملف رقم  IOR/L/PS/10/134/1


وهنا يقف الدكتور نادر كاظم على الإشارات المهمة التي تضمنها هذا الخطاب والتي تتصل بتاريخ وجود البانيان كجماعة تجارية فاعلة وعريقة في المنامة، وتبحث عن أسواق بديلة في البلدان المجاورة، القطيف وقطر على وجه التحديد؛ وذلك بسبب احتدام المنافسة في سوق المنامة مطلع القرن العشرين. بيد أن الإشارة الأهم في هذا الخطاب تتصل بتلك الإشارة العارضة لتاريخ وجود جماعة البانيان في البحرين. وإذا افترضنا - وهنا الكلام للدكتور نادر أيضاً - أن التحديد الزمني الوارد في الخطاب تحديد دقيق، فإن تاريخ وجود الجماعة في البحرين يرجع إلى مئتين سنة تقريبًا، أي إلى العام 1703 أو لنقل، تجوّزًا، إلى العام 1700. لينتهي بالقول إلى إنه سيعتمد هذا التاريخ مؤقتًا حتى تتضح الصورة الكاملة أمامنا مع تقدّم البحث في فصول هذا الكتاب.

مستدركاً بالإشارة إلى إنه ليس معنى هذا أن البانيان كجماعة تجارية لم يكن لها أية علاقات تجارية مع البحرين وسوقها قبل العام 1700؛ لأن السجلات التاريخية تشير إلى وجود البانيان كأفراد وتجّار ووسطاء وخبراء بتجارة اللؤلؤ الآخذة في الازدهار في البحرين خلال القرن السابع عشر الميلادي أي قبل قرن من التحديد التاريخي الوارد في الخطاب. أضف إلى هذا أن العلاقات التجارية بين الهند وموانئ الخليج، بما فيها البحرين بالتأكيد، علاقات قديمة، ومن الصعب تحديد تاريخ معين لمثل هذه العلاقات الضاربة في القِدم. فقد ارتبط ميناء البحرين بالموانئ التجارية المزدهرة على سواحل الخليج والمحيط الهندي منذ عصور بعيدة، وذلك عندما ارتبطت طرق التجارة القديمة بين بلاد ما بين النهرين (العراق)، ودلمون (البحرين)، وماجان (عمان)، وبلاد السند والهند (باكستان والهند) قبل آلاف السنين.

1,068 views0 comments
bottom of page