top of page

فيلم السيمفونية الأمريكية



سمفونيتنا متحررة، كتحرر مجتمعنا، وسمفونيتكم مقيدة بصرامة ملوككم

 فيلم وثائقي عن الموسيقي الأميركي جون باتيست. وهو يعمل على إنتاج سمفونيته، في ظل حياة أسرية صادقة ولكنها مؤلمة بسبب إصابة زوجته بالسرطان. باتيست عازف جاز، وبيانو، وعلى آلك الميلوديكا-وتسمى البيانيكا، وعلى الأورغ والباص، ومغني أمريكي. 

هل السمفونية عمل فرداني أم تشاركي؟:

هذا الموسيقار المتخصص في موسيقى "الراب" الأميركية، يتم توجيهه وتشجيعيه بأن يتحول إلى موسيقي كلاسيكي، وينتج سمفونية أميركية.

هو يريد نسف ذلك الفصل التاريخي في القرون الموسيقية السابقة التي كانت الموسيقى الكلاسيكية تُخلق كإبداع في ذات الموسيقار الواحد. هذا الفيلم قرر كسر وتحطيم هذه القاعدة. باتيست يعلن في أكثر من مشهد بأن سمفونيته الأميركية ستكون ضد العمل الفردي الذي يقوم به الموسيقار المبدع لوحده في خلق السمفونية، ثم لاحقاً تقوم الفرقة الموسيقية بعزفها جماعياً وتشاركياً، هو إذن يريد أن ينسف فكرة الفردانية المبدعة في خلق السمفونية، إنها عمل جماعي إبداعي تشاركي. هي فكرة جميلة في الفيلم، ولكنها فكرة تصطدم مع البنية الأيديولوجية والطبقية للمجتمع الأميركي. هذه البنية المترسخة فيه الفردانية في كل مناحي الحياة الأميركية، منذ تأسيس الولايات الأميركية، وفي دستورها وعقيدتها، واقتصادها الرأسمالي، وقدسية الحريات الفردية. ليأتي هذا الفيلم ويقول لنا بأن موسيقانا الأصيلة، جماعية تشاركية في الأصل، عكس حياتنا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ذات الهيمنة الذاتية الفردانية.



باتيست والموسيقى المينيمالية:

 ما يحاول خلقه هذا الموسيقار، هو في الأصل موسيقى ظهرت في الولايات المتحدة الأميركية تحت تسمية (المينيماليزم)، أي الموسيقى الكلاسيكية المعاصرة -التبسيطية غير المعقدة-. تشير الكاتبة سارة عابدين في مقال لها عن الموسيقى المينيمالية، بأنها ظهرت في الفن التشكيلي والأدب في منتصف القرن العشرين، وأصبح لها تأثير قوي في الموسيقى المعاصرة منذ ذلك الحين (بداية التحول في الموسيقى الكلاسيكية كانت مع نهاية العصر الرومانسي (1830 – 1910) حين بدأ بعض الملحنين في دفع الحدود الموسيقية المتعارف عليها، ولم يعد التركيز الرئيس على اللحن المتناغم ولا الأصوات الجميلة. وقام بعض مؤلفي الموسيقى بالتخلي عن النظام الموسيقي المعروف، وسعى البعض لخلق نظام جديد ومبتكر. وشهدت الموسيقى المينيمالية تغيرات وتحولات كبيرة، ومع اقتراب القرن العشرين من نهايته، حدث ما يشبه انفجاراً في الأصوات والأفكار الجديدة خاصة مع التطور التكنولوجي الكبير). ظهرت الموسيقى المينيمالية في بداية الأمر في نيويورك مع الملحن والموسيقي والشاعر لويس توماس هاردين الملقب بموندوغ، (فقد قضى موندوغ أغلب حياته متنقلاً بين شوارع نيويورك، يؤلف موسيقى مستمدة من جوهر المدينة بخطوطها وتماثلها وأبنيتها التي تشبه بعضها بعضاً وتبتعد عن الزخارف، إنها موسيقى لا تهتم إلا للحد الأدنى من النغمات التي تتكرر دون بناء لحني معقد). وكان أهم ما يميز موسيقى موندوغ، بأنها متأثرة بالموسيقى الكلاسيكية، ولكن بشكل شديد الحداثة، فهو اقتبس (الموسيقى الطباقية المعتمدة على عدة أصوات تتضافر معا في هارموني موسيقي مع الحفاظ على استقلالية كل صوت ومميزاته). وواضح في هذا الفيلم بأن جون باتيست امتداد لهذا التيار. وحتى في تعابير وجهه حين يغمض عينيه، ويلامس البيانو بأصابعه، وكأنه لا يبصر، وفي صمته الموسيقي. وهذا ما أشارت له الكاتبة سارة بأن كان (للعمى دور كبير في خلق موسيقى موندوغ التي اعتمدت على خلق نبضات ثابتة في توقيتات زمنية متفاوتة، بسبب إحساسه السمعي المرهف، وإقامته في شوارع نيويورك. وقد استمد إلهامه من الأصوات المختلفة حوله، مثل أبواق السيارات، وأصوات المارة وخطواتهم، وكذلك الأصداء المختلفة، وصفارات الإنذار، بالإضافة إلى أهمية الصمت في اللحن الموسيقي). 



الروحانيات في موسيقى باتيست:

معظم مشاهد الفيلم يسحبك نحو الأجواء الروحانية. هذه الروحانيات العاطفية والجسدية لموسيقى باتيست لها علاقة ما بما كان يؤمن بها بعض الفلاسفة الأوروبيين مثل شوبنهور ونيتشه، وسبقهم الفلاسفة العرب مثل الكندي والفارابي وابن سينا وحركة إخوان الصفا. وكلهم -تقريباً ونسبياً- يتفقون بروحانية الموسيقى. ولنأخذ الكندي نموذجاً.

باتيست والفيلسوف العربي الكندي:

من المعروف أن أبا يوسف يعقوب بن إسحق الكندي، استخدم بكثرة "المشابهات"- سماها المشاكلات - وهي ترجمة قديمة، لكنها دقيقة، لمصطلح Analogy. وتعني المشاكلة، أو المشابهة. أي استنباط علاقة بين متشابهين أو أكثر اعتمادًا على هذا التشابه. 

في دراسة قيمة بعنوان (اتجاهات فلسفة الموسيقى العربية)، للدكتور كريم الصياد، أستاذ الفلسفة في جامعة القاهرة. يشير بأن من ضمن المشابهات التي اعتقد بها الكندي في الموسيقى هي أنها "شبه مادة quasi-matter، تؤلف النفس الإنسانية مع عناصر العالم، وأن هناك علاقة قوية بين الموسيقى والروح-النفس-". 

وإليكم مشهدين كنموذجين لهذه الروحانيات الجوانية، وانعكاساتها البرانية على أعضاء الجسد:

مقطوعات باتيست الموسيقية الروحانية:

(١): في مشهد بروفة مع معلمه، يعزف باتيست مقطوعة لبيتهوفن، ويجري هذا الحوار بينهما:

المعلم: وأنت تعزف هذه المقطوعة عليك أن تتنفس، أنت تعزف دون أن تشارك تنفسك مع العزف! إذا لا تتنفس، فالعزف سيصبح كعزف الحاسوب، لا إحساس فيه. أريد الحياة في اللحن. أريد أحس بصرخة يائسة.

(٢): في مشهد على المسرح، يعلن باتيست بأن المقطوعة الموسيقية التالية مهداة لسوليكا، زوجته المخلصة له، والمخلص المحب لها. هذه المقطوعة كانت مفعمة بالألم والتعب وفقدان الحبيبة، كان جسده وارتعاشات وجهه، ودموعه المحبوسة تحت جفنين مغلقين. وما يؤكد هذا الإحساس الأليم، بأن سوليكا، وهي في المستشفى تحت العلاج الكيماوي، وتشاهد الحفل الموسيقى عن بُعد، تطلب تغيير الموسيقى لأنها فجرت مشاعرها، وسببت في بكائها، وهي التي تريد بعضًا من الفرح!.

هذه المشاهد تعبرعن ما أعتقده الكندي من علاقة المقطوعات الصادرة من الآلات-المحسوسات المادية- بالعواطف والنفس والروح. وفي الفيلم العديد من هكذا مشاهد، وهكذا حوار أيضاً في فلسفة الموسيقى هذه. فمثلًا هناك من المقطوعات الموسيقية البطيئة التي تبث أجواء الحزن، وهذا ما وضحه الكندي بأن سرعة الإيقاع، ذات أثر على الحالة النفسية (فالسريع أقرب إلى الفرحة، والبطيء أقرب إلى الحزن). 

إن جميع المقطوعات الموسيقية في مشاهد الفيلم، وبالأخص، المقطوعة المهداة لزوجته، والسمفونية الأميركية التي قدمها باتيست في نهاية الفيلم، كأول تجربة كلاسيكية له، كلها تعكس جميع ما اوردها الكندي من المشابهات بين هذه المقطوعات والآلات الموسيقية، وارتعاشات الجسد وأصوات النغم الحزينة الهادئة.



الصمت في الموسيقى:

من المعروف بأن لحظات الصمت في المقطوعات الموسيقية الكلاسيكية- وبالذات في السمفونيات- هي جزء من الموسيقى، جزء من الإيقاع، جزء من اللحن غير المسموع، ولكن هذا الصمت محسوس بالخيال والقلب والمشاعر.

في المشهد الذي يهدي مقطوعته لزوجته، وهو جالس مقابل البيانو، وأصابع يديه على أصابع البيانو، غامضاً عيناه، صامتاً، هادئاً، لمدة دقيقة تقريباً، الصمت في كل شيء. لا صوت، لا حركة، لا نغم. هدوء تام، يحرك أصابعه في الفراغ، مندمجة مشاعره وعواطفه مع هذا الصمت، وكأنه مقطوعة حزينة باكية قاسية. عندما تعزف لمدة أكثر من دقيقة مقطوعة بطيئة جداً، ولكنك لا تسمعها، ولكن "تراها"، تشاهد الموسيقى -الصمت- فإنك هنا تتعامل مع الوقت ككتلة بين الماضي- ذكرياته الجميلة مع زوجته-والحاضر المؤلم، وعندما تسمع هذا الصمت البطيء، ستشعر بلا شك بالمأساة والتأسي. 

العودة إلى متشابهات الكندي:

أكثر مشاكلات الكندي واقعية تلك التي تتعلق بثقافة الشعوب، وتاريخها. لقد اعتقد الكندي في نوع من التأثير المتبادل بين الثقافة وبين آلات الموسيقى عند الشعوب المختلفة، ومن الطبيعي أن تتأثر الموسيقى لدى شعب معين بمعتقداته، وثقافته بشكل عام. وهذا ما عكسه الفيلم بشكل جليّ في المشهد الأخير، مشهد السمفونية الأميركية وهي تعكس تراث ومعتقدات وثقافة كل الشعب الأميركي ذي الأصول المختلفة والهويات المتنوعة المرتبطة بالمجتمعات التي هاجرت منها الأفراد إلى هذه القارة الجديدة.



ولادة النمط الأميركي للسمفونية:

في الدقائق الأخيرة من الفيلم تتبلور "السمفونية الأميركية" المينيمالية. 

أولاً، وإبتداءً: الفرق الكبير بين افتتاحيات السمفونيات الكلاسيكية الأوروبية، ذلك الهدوء، والإجلال، والتصفيق الرهيب للمايسترو، سواء كان مؤلف السمفونية نفسه، أو من يحل محله بعد رحيله كمايسترو للفرقة الموسيقية. وبين افتتاحية سمفونية أميركية وكأنها افتتاحية مسرحية كوميدية، ترحيب صاخب، يخرج المايسترو، بيتهوفن بثقافة أميركية، يرحب بالجمهور بصرخات وحركات، وكأنه في افتتاح كرنفال، أو مهرجان شعبي، أو مسابقة موسيقية. 

العازفون خليط من كل أجناس القارة: الهنود الحمر بملابسهم التقليدية، ذوي الأصول الأفريقية بملابسهم الملونة، وذوي الأصول الصينية، والمكسيكية؛ السود والبيض والصفر.  كلهم بملابسهم الطبيعية الحرة، كلٍ يلبس ما يرتئيه، ملابس الهنود الحمر، ملابس الهيبيز، المراهقات، كل أنواع المكياج الفاقعة، الوشم، قطع معدنية في الأنف وحوافي الأذن،،،إلخ.

هنا، واضح، وبتعمد مقصود، رسالة تحدي وثقة، بأن سمفونيات القارة الجديدة تعكس ثقافة وأيديولوجية  الليبرالية الرأسمالية، وليست كصرامة وفخامة الملكيات الأوروبية التي كانت الموسيقى في خدمة قصورها وحفلاتها "المهيبة". فالفرقة الموسيقية الأميركية، متحررة، كتحرر المجتمع، ننطلق فيها بسجيتنا، وعفويتنا، دون الرهبة التي فرضها ملوك أوروبا على مبدعيها. 

ثانياً: حركات السمفونية الأميركية:

الحركة الاولى: تكرار للحن وضربات الأقدام العسكرية على الأرض. وفجأة  يدخل الغناء بكلمات واضحة توحي بأنه مهما استمر التمييز ضد السود، فالنصر قادم لا محال. إذن هذه السمفونية الأميركية هي سمفونية انتصار السود على النظام العنصري الأميركي. تماماً كما كانت السمفونية الثالثة لبتهوفن انتصار لقيم الثورة الفرنسية على ديكتاتورية نابليون عندما أعلن نفسه إمبراطورا، وتخليه عن قيم الثورة.


ماثيو هاينيمان

المشهد العظيم: 

يستخدم المايسترو باتيست جهازًا إلكترونيًا يصدر الألحان مرافقاً لآلة البيانو، بمعنى تزاوج الآلات الموسيقية مع آلات مرتبطة بالكهرباء، وكأنه يقول: ما تميز السمفونية الأميركية عن الكلاسيكية التقليدية الغربية هو التقنيات الحديثة القادرة على أن تحل محل الآلات القديمة، لكن وفي لحظة، ينقطع التيار الكهربائي عن هذه الأجهزة- وينقطع الـ Wifi أيضاً- في تلك اللحظة ينشل المايسترو وبقية أعضاء الفرقة، وكأنه يعلن رسالته: المنقذ هنا هو عصارة الذات الواحدة، ذات الموسيقار فقط، لذلك، يبدأ في العزف على البيانو في مقطوعة، تمر أمامه ذكريات حياته وتجاربه وآلامه وأحزانه. هو هنا يؤكد ضرورة الذاتية، الوحدانية، الفردانية، في إبداع الموسيقى، ثم بعدها تأتي التشاركية. حيث في أعماق تلك الذاتية الأحادية هناك عشرات المشاركات والتشاركات الجماعية في سياق حياة الذات الواحدة مع المجتمع وأفراده. تبدأ الفرقة في العزف: أنغام والحان أفريقية يستخدمها الأمريكان السود في فن الجاز، أنغام صاخبة حماسية راقصة، آلة الناي وهي تعزف ألحان الهنود الحمر، والعازف يرقص معها. كل آلة تعزف موسيقى وتراث المجتمعات التي هاجروا منها جماعات إلى القارة الجديدة. في نهاية الفيلم يعلن باتيست: بأن ما سمعتموه من موسيقي، هي مجموع (الشتات) الأميركي. 



هذه هي هوية أميركا، المختلفة عن هويات متماسكة أوروبية، لذلك فهوية وأسلوب وشكلانية وبرانية وجوانية السمفونية الأميركية بالضرورة تختلف شكلاً وموضوعاً عن السمفونية الأوروبية بكل جلالتها المرتبطة بقيم وتطور تاريخي لم يعيشه المجتمع الأميركي منذ لحظة ميلادها واكتشافها كقارة جديدة إلى لحظتها الراهنة الفسيفسائية. ليختتم الفيلم بمقطوعة موسيقية تعكس هويات الشعب الأميركي من مرحلة الهنود الحمر ورقصاتهم مع الطبيعة وكائناتها، ومن ثم مرحلة "الكوبوي" والبربرية، ومرحلة المهاجرين من كل صوب، شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً ينهمرون على هذه الأرض. تبدأ منذ تلك اللحظة الباكرة هويتها وثقافتها، بما فيها طفولية موسيقاها، وما تزال هكذا. في مقال للكاتب أمير العمري، منشور على موقع الجزيرة. يعلق على مشهد اندماج الجمهور مع السيمفونية الأميركية: "هنا تنتقل الكاميرات التي بلغ عددها 13 كاميرا بين العازفين وفريق الغناء و”جون باتيست” والجمهور، وتدور في حركات دائرية تصل إلى السريالية في تصوير العلاقة بين الصور والموسيقى، لكي يمنحنا الفيلم شعوراً بالحالة الروحانية التي يعيشها الجميع من خلال الفن والتجاوب الفطري التلقائي مع الموسيقى".

الفيلم من إخراج ماثيو هاينيمان، وبطولة جون باتيست، إنتاج ٢٠٢٣م. باتيست حائز على جائزة غرامي خمس مرات، وذلك على أغانيه وألبوماته، وجائزة غولدن غلوب، كما فاز على الأوسكار عن موسيقاه التصويرية لفيلم الرسوم المتحركة (Soul). وحالياً، تم ترشيح الفيلم لجائزة الأوسكار لهذا العام والذي سيتم الإعلان عنه في مارس ٢٠٢٤. حيث أتوقع أن يكون هو الفائز بالأوسكار، كأفضل فيلم وثائقي.

125 views0 comments
bottom of page