top of page

أَبُو حَيَّان التَّوْحِيدِي يُعِيْدُ رَسْمَ عَلِيّ البَزَّازِ



" فَلَقَدْ فَقَدْتُ كُلَّ مُؤَنِّسٍ وَصَاحِبٍ، وَمُرَافِقٍ وَمُشَفِّقٍ، وَوَاللهِ لَرُبَّمَا صَلَّيْتُ فِي الجَامِعِ، فَلا أَرَى جَنْبِي مَن يُصَلِّي مَعِي، فَإِنِ اتَّفَقَ فَبَقَّالٍ أَوْ عَصَّارٍ، أَوْ نُدَافٍ أَوْ قَصَّابٍ، وَمَنْ إِذَا وَقَفَ إِلَى جَانِبِي أَسْدَرَنِي بِصَنَانِهِ، وَأَسْكَرَنِي بِنِتْنِهِ، فَقَدْ أَمْسَيْتُ غَرِيبَ الحَالِ، غَرِيبُ اللَّفْظِ، غَرِيبُ النَّحْلَةِ، غَرِيبُ الخُلُقِ، مُسْتَأْنِسًا بِالْوَحْشَةِ، قَانِعًا بِالْوَحْدَةِ، مُعْتَادًا لِلصَّمْتِ، مُلاَزِمًا لِلْحِيرَةِ، مُحْتَمَلاً لِلأَذَى، يَائِسًا مِنْ جَمِيعِ مَن تَرَى."
أَبُو حَيَّان التَّوْحِيدِي مقتطف من كتاب " الصّدَاقَةُ وَالصَّدِيقُ"



القَلَقُ فِي البَحْرَيْنِ لَا يُخْتَلِفُ عَنِ القَلَقِ فِي لُنْدُنَ أَوْ فِي بَرْلِينَ مِنْ حِيثُ كَوْنِهِ قَلَقًا، فهل هو سمة كونية؟ دعني أعيد التعبير، القلق، على سبيل المثال، عند الكاتبة البحرينية " بَاسِمَةُ القَصَّابِ" لا يختلف عن القلق عند الفنان البحريني " عَلِيّ البَزَّازِ " من حيث كونه قلقا، فهل هو سمة إنسانية؟ دعني أعيد التعبير، القَلَقُ عِنْدَ الصُّوفِيِّ أَبُو حَيَّانَ التَّوْحِيدِيِّ لَا يَخْتَلِفُ عَنِ القَلَقِ عِنْدَ الصُّوفِيِّ مَنْصُورِ بْنِ حُسَيْنِ الحَلاَّجِ أَوْ عِنْدَ الصُّوفِيِّ ابْنِ عَرَبِيِّ (صَاحِبِ الفُتُوحَاتِ) مِنْ حَيْثُ كَوْنِهِ قَلَقًا، فَهَلْ هُوَ سِمَةٌ عِرْفَانِيَّةٌ\صُوفِيَّةٌ؟

يمكن القول أن القلق يكتسح الجميع، ولكنه يتكثف بشكل مختلف بين أفراد ينتمون إلى مجتمع النخبة، فلا منجى لهم منه إلا بكيفة تمدده في نسبية القوالب الحاضنة له. فهذه كتابات هؤلاء الفلاسفة تتناول القلق، فَسُورِينَ كِيرْكِيغَارْدُ وَكِتَابُهُ "مَفْهُومُ القَلَقِ"، وَهَايدِغَرُ فِي كِتَابِهِ "الكِينُونَةُ وَالزَّمَنِ" وَفْرُويدُ فِي كِتَابِهِ "التَّثْبِيطِ".

كتب تتطرق إلى أعراض نفسية وقلق، دراسات ركّزَت على مسألة القلق. ولكن أبرز من ميّز بين أشكال القلق هو هَايدِغَرُ، حيث بيّن أن "القلق" يختلف عن "الخوف" من حيث أن القلق لا يقتصر في موضوع خاص به فهو ذو أفق غير منغلق.

لكن القلق في العمق الصوفي مرحلة "حال"، تَتًفَتّح كأبعادٍ غير معروفة تماما مثل مُحَرّك يدفع بقارب في محيط مجهول. ففي عالم التصوف يتميز كل شخص بالمستوى الأمثل من القلق يتناسب مع استعداداته النفسية، وهذا ما يسميه البعض بالقلق "الإيجابي"، وهو شرط ضروري لتطور الشخصية عرفانيا.

تحدثت ساعات طوال مع الفنان البحريني " عَلِيّ البَزَّازِ "، في فاعلية يوم 17 أكتوبر 2023 عندما عرض رسوماته الذي يقر عنوانه " كَإِبْرَةٍ فِي كَأْسٍ مُمْتَلِيءٍ" أنه إعتراف مسبقا بعجزه عن تجسيد نصوص الفيلسوف والأديب أَبُو حَيَّان التَّوْحِيدِي البغدادي (دفين مدينة شيراز في سنة 414 هـ) في لوحاته. فهو أو ريشته مجرد إبرة إستلقت قناعتها في قعر معارف أَبُو حَيَّان، بلا حراك وبلا قدرة من الإستفادة من سيولة معارف أَبُو حَيَّان. فالإبرة تحتاج إلى خيوط صلبة مرنة لتعمل كأداة. لكنها أمام البحر فما عليها إلا الإستسلام والإستلقاء.

توقفت بعد أن ترك الجميع جاللري " مُشَقَّ" أحدق تارة في رسمة تتخيل أَبُو حَيَّان التَّوْحِيدِي وهو يحلق عبر الدائرة منهمكا بسكون الحضرة الوجدانية التي أنجزته ريشة عَلِيّ البَزَّازِ وبين نص التوحيدي الذي إنتقاه عَلِيّ البَزَّازِ ليبرر مخياله:

" يا هذا إذا ترنَموا لكَ بغيب التوحيد عن ألحان المعرفة ، فاشخص عن مكانك واشْتَقْ إلى معَانِكَ ، وانقطِع عن أقرانِكَ ، وليس يكمُل لك هذا الرأي ولا ينصَعْ في نفسِكَ هذا النُصح ، حتى تُقشِّر جُملتكَ قَشْرا، وتنشر تفصيلك نَشّرا ، ثم تطوي معناكَ طيّا "

" التَّوْحِيدِي"



توقفت محاولا أن أمسك بخيطِ الزمن الممتد بطرف من وقت أَبُو حَيَّان التَّوْحِيدِي البغدادي (دفين مدينة شيراز في سنة 414 هـ) والمشتبك بطرفه الآخر مع ريشة بحريني ينتمي إلى عام 2023 ويرسم لوحات مُسْتَوْحَاةٌ مِنْ فُقُرَاتٍ إِجْتَزْتُ مِنْ كِتَابٍ لِلتَّوْحِيدِيِّ بِعَنْوَانِ "الإشَارَاتِ الإِلَهِيَّةِ".

حاولت أن أفهم ماذا نسمي عَلِيّ البَزَّازِ هل هو "راسم" اللوحة؟ أوماذا لو نسمية "راويا" لوجدانيات أَبُو حَيَّان التَّوْحِيدِي ؟ أوماذا لو نسميه واقفا في زمن مابعد حداثي "مشتبك" ببقايا الحداثة وهي تَتًفَكّك داريدِيّا؟


معرفة الخالق وما وراء هذا العالم المادي رحلتي. فبعد النزول إلى العالم المادي نجدنا نُكَرِّرُ عَلَى مَسَامِعِنَا عِنْدَ السَّفَرِ "إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ" مُعْلِينِينَا أَنَّ "فُلَانَ مِنَ النَّاسِ" يَخُوضُ رَحِلَةَ "قَوْسِ الصُّعُودِ" مَرَّةً أُخْرَى إِلَى عَالَمِ "غَيْرِ مَادِي" مَجْهُولِ. إِذْ يَتَحَرَّكُ الصُّوفِيُّ أَوِ العَارِفُ فِي رَحِلَتِهِ تِلْكَ مِنَ الخَلْقِ إِلَى الحَقِّ. هذا المجهول هو مصدر القلق الإيجابي خصوصا عندما ينزاح عن مرأى نطاق العين ستار خفي، مفسحا لرؤية بعض من "الحقيقة". حقيقة تتكثف ألف بائها بين دفتي كتاب عرفاني يبتغي أن يُعَرّفُنَا بالله!


عودا على ثلاثية الأسئلة الآنفة فهل نجيب بتردد أن عَلِيّ البَزَّازِ "راسم"، "راوي" أم "مشتبك" أم أن نتيقن أنه "جميعهم"؟ عَلِيُّ البَزَّازِ يُقَرِّ أَنَّهُ "غمّاس" بِمَعْنَى الغَطْسِ وَبِمَعْنَى الغِيَابِ. أي خروج من عوالق للدخول في شيء آخر.

: ريشتي تشابه الحركة التصوفية المتنقلة من مقام، تاركة متعلقاتها من أحوال لأجل أن تنزل في مقام جديد، لتنغمس في أحوال جديدة. الناتج ليس تخلص يقيني، ولكنه رؤية تنظر عبر ما تَكَشّفَ لها من غيب كان خلف الستار، ثم ينجلي كاشفا عن حقاق جديدة. لوحاتي، لغتي الناطقة سيميائيا، المنصرفة "عن" والمقبلة "على"، في حركة دؤبة، وهي تتجلى في وادي مصنوع من الجمال. في رحلتي العرفانية، تنجلي أمام "عين فؤادي" خوافي ما كنت أراها. أنا منتمي إلى جماعتي، فخيط سرّي ما قطعه مقص الإغتراب. فأنا مع بيلوجيات أصل جسدي وجماعتي، ولكن حبل سرّي طويل طويل جدا، يسمح لي بالذهاب بعيدا بعيدا جدا.

القدر موعد حتمي، يتلبد في كتاب الوجود، إسمه "المحفوظ". كأزل ينسل إلى أديم الوجود، همسا أو وهما أو وحيا أو إيحاءا. هذه الكليّات تقف أمامنا لنختار من عروضها عرضا، ومن بين مسالكها مسلكا. من حقك أن تسأل كيف توقف مركب حياتي عند شواطيء أَبُو حَيَّان التَّوْحِيدِي ؟

كان لقائي معه كقدر مؤجل. فبالرغم من إحتواء مكتبتي على كتبه منذ سنين مراهقتي، إلا أن " بَاسِمَةُ القَصَّابِ" طرقت ضبّة بابي، وأنا، عندها، كنت في حين من أدهر غفلاتي. قالت: علي يا علي، رددت: نعم بَاسِمَةُ القَصَّابِ، مالخبر؟ قالت: أنجزت كتابي "إِبْرَةُ أَبِي حَيَّانَ التَّوْحِيدِيِّ"، وأريد أن أحجز صالتك جَاليرِي "مُشَقَّ" لتدشين الكتاب. كان هذا الحوار القصير كافيا ليحدث أفاعيله. فعلى نقيض الدلالة الظاهرة والمتوخاة من سؤال طرحته بَاسِمَةُ القَصَّابِ في إطار يبحث عن تحديد موعد تدشن فيه كتابها، وجدتني أنا المتلقي للغة إشارية منيرة في فضاء العرفان، ترتجز كبرق أبلج، يلمع في ظلمات، كشيء لاح أمامي، كداعي يدعوني، ليطلقني من مكابحي التي أرستني في مراسي أزقة مشاغلي، ربطتني مقيدا في الدنيا. أتى ندائها ليتحول إلى مقص. مقص خلصني من قيودي، مكنني من أغادر من جديد مع ألوان وفقرات ريشتي مع نصوص كتبها أَبُو حَيَّان التَّوْحِيدِي.


فقد يكون هذا ناجما عن إحساسي بتناهِيّ كإنسانٍ، تناهيا يتجلى من خلال انزلاقي الكلي في العالم. وجدتني وكأن كل شيء يتلاشى أمامي، وينقلب نهارا بعد أن كان سوادا، غادرني القلق الذي إنعقد في حنجرتي ردحا من وقت، غادرني ألم كان يصاحبني دون أن أعرف السبب. كنت عاريا، ولكنني فجأة وجدت "معانٍ" تلتحفني كخلقة تحيطني كصوف يستر ظاهري. يدشنني. إنه ليس أدب الاعتراف بل هي ريشة سايح ساح في فضاء العرفان.

ختاما أترككم في متاهة غير موقعة وغير مرسومة

الفنان عَلِيّ البَزَّازِ هو شخص ذو موهبة فنية مميزة ومهتم بالأدب والفلسفة، حيث يستلهم إبداعه في مجال الحروفيات من آثار المتصوفة والحكماء من المسلمين وسواهم، فيما تركز لوحاته في هذا المعرض على إشارات بثها الفيلسوف والأديب أَبُو حَيَّان التَّوْحِيدِي. تركز لوحاته على مواضيع معينة من أعمال هذا الفيلسوف والشاعر التَّوْحِيدِي، وتحديداً على مفاهيم الغربة، الوحشة، والرغبة في التحليق في فضاء العرفان.



من خلال استخدام الفن كوسيلة للتعبير، يمكن أن يسلط الضوء على تلك المفاهيم ويساهم في تفسيرها وفهمها بصورة جديدة ومثيرة. لوحاته التي تأخذ إلهامها من أَبُو حَيَّان التَّوْحِيدِي قد تكون وسيلة للتعبير عن رؤيته الشخصية لهذه المواضيع والمساهمة في نقلها إلى الجمهور بطريقة فنية مميزة.

يبدو أن هذا التركيز على مفاهيم الغربة والوحشة والرغبة في التحليق في فضاء العرفان يجسد تفكيرًا عميقًا ورؤية فلسفية، ويمكن أن يشكل إضافة قيمة لعالم الفن والثقافة. إن الفنانين الذين يجمعون بين الإبداع الفني والفلسفة يساهمون في إثراء الحوار الثقافي والفهم العميق للمفاهيم الأدبية والفلسفية.

شكراً أَبُو حَيَّان التَّوْحِيدِي أَنَّ لَكَ بَاسِمَةُ القَصَّابِ وَلَكَ عَلِيُّ البَزَّازِ عَبَّرَهُمَا طَرَقْتَ أَبْوَابَ غَفْلَاتِنَا وَنَحْنُ مُسْتَغْرِقُونَ فِي عَالَمِ الْمُهَلَّةِ السَّارِيَةِ عَنَّنَا تاركتنا كَغُبَارٍ فِي فَضَاءِ الزَّمَنِ.




59 views0 comments
bottom of page