top of page

الديكتاتوريون كمصّاصي الدماء.. خالدون لا يموتون



فيلم "الكونت" El Conde للمخرج التشيلي بابلو لارين من إنتاج عام ٢٠٢٣ عن حياة وسيرة وتاريخ الجنرال بينوشيه. كنموذج للديكتاتوريين في العالم.

لقد لعب توقيت صدور الفيلم في الخامس عشر من سبتمبر الماضي دورًا فيما يحاول قوله هذا الفيلم الذي يختلط فيه الواقع بالخيال، إذ صادف الحادي عشر من سبتمبر هذا العام الذكرى الخمسين للانقلاب العسكري الدموي في تشيلي والذي قاده بينوشيه عام ١٩٧٣، وأسقط حكومة سلفادور أليندي المنتخبة ديمقراطياً بالتعاون والدعم المخابراتي الأميركي.

في مقاربة جميلة بين الفاشية والحركات المتطرفة المعاصرة، يشير الناقد العراقي علاء حسن في مقال له منشور على الموقع الإلكتروني (العرب) بأن "عادة تخيل أحد أكثر الدكتاتوريين شراً في التاريخ كمصاص دماء طريقة رائعة لتعرية الفاشية. يفعل المخرج لارين ذلك عن طريق السخرية بمهارة ويكشف مدى غباء الفكر الفاشي، في حين لا يتردد أبداً في فضح الجوهر الوحشي للحركة الفاشية واليمين المتطرف ومن خلال رؤية قاتمة إلى حد ما".

يبدأ الفيلم بتعليقات امرأة لا نراها ونسمع صوتها فقط، وهو صوت يشبه في لكنته صوت رئيسة وزراء بريطانيا، مارغريت تاتشر!، تتحدث بسرد خلفية تفكير بينوشيه وحياته التي بدأت قبل ٢٥٠ سنة، وتم تشبيهه بمصاص الدماء الذي يتغذى على دماء البشر. نسمع وهي تُعلق :"لقد تذوق عزيزنا الكونت الدم البشري من كافة بقاع العالم". دلالة على تأثره بقيم وممارسات من سبقوه من الديكتاتوريين في العالم: الدم الإنجليزي هو المفضل لديه، "إنه دمٌ يزخر بعبق من الإمبراطورية الرومانية" هذه الإمبراطورية التي ارتبطت تاريخها بالتعامل مع البشر باعتبارهم عبيداً يستحقون القتل والتعامل معهم "كحيوانات نتلهى بموتهم في حلبة القتال!. طعم هذا الدم مُرّ وقاتم". لكن تذوق بينوشيه/أي ديكتاتور آخر، أيضاً عينات من دماء (أمريكا الجنوبية)، دماء العمال. إنه دماء لا يوصي بها، "إنها لاذعة وتتسم برائحة نفاذة لا تطاق". حيث ينضح الدم بروائح ونكهات عامة الناس التي تظل عالقة في فمه لأسابيع بعد شربه. وبالطبع أثناء هذا التعريف كانت الكاميرا تركز على عين بينوشيه وكأنها عين ذئب ينتظر فريسته، وتركز على أسنانه وقد امتلأت بين ثناياها بدماء الضحايا.



الفيلم يربط حياة الديكتاتور بينوشيه بمراحل تاريخية ممتدة منذ قرنين ونصف القرن من الزمن!، ففي فرنسا كان جندياً يخدم الملك إبان الثورة الفرنسية، ثم ينقلب ضده وينضم للثورة، ويشاهد لحظة قطع رأس زوجة الملك، ماري أنطوانيت. حيث يلعق دمها من على شفرة المقصلة ويحتفظ برأسها المقطوع. ويظهر لاحقاً مقاتلاً ضد الثورات في هايتي وروسيا والجزائر. ولكنه سئم من كونه جندياً بسيطاً وعقد العزم على أن يصبح قائداً، ولذلك اختار بلداً بِلا مَلِكْ في أميركا الجنوبية، وهناك في "تشيلي" انضم للجيش كملازم في عام ١٩٣٥. كان هدفه واضحاً: أن يكون ملكاً ذات يوم. وبعد سنوات أصبح لواءً. وفي عام ١٩٧٣ نفذ انقلابًا عسكرياً وقصف القصر الرئاسي ليطيح بالرئيس الاشتراكي "سلفادور أليندي". ولذلك أنقذ هذا المصاص للدماء تشيلي من (الغزو البلشفي!). وفي أجواء هذا الانتصار طلب أن ينادى باسم (الكونت).



التحالف بين الدكتاتور بينوشيه ورجال الكنيسة

بعدما أصبح بينوشيه مدمناً على دم البشر، تماماً كدراكولا، لا يستطيع العيش دون أن يقتل ويطحن قلب الضحية ويحوله إلى عصير أحمر قان، ليشبع روحه وجسده. لذلك طلب مساعدة الرب وممثليه على الأرض-رجال الدين- بأن يجلبوا له أفضل الراهبات المتمكنات كطاردة للأرواح الشريرة من جسده. وعندما تيقنت الكنيسة بأن الكونت أصبح قريباً من الموت، وحيث أنها متآمرة معه وشريكة في سرقة ثروة البلاد والعباد، لذا قررت إرسال راهبة من الكنيسة متخفية كمحاسبة قدِمت لتحصي أملاك الأسرة البينوشية، إلا أن الراهبة تصبح هي الأخرى مدعاة للقلق بعد إعجاب الجنرال بها، حيث تصبح لاحقاً مصاصة دماء بإغواء من الكونت، بهدف أن تبقى خالدة في هذا الوجود، لتتكشف تدريجيا الخفايا من خيانة زوجة الكونت مع خادمه الروسي، الذي يتضح أنه مصاص دماء أيضاً ومرتكب الجرائم بعد التنكر بزي الجنرال. يشير الناقد محمد استانبولي في مقاله المنشور على موقع (العربي الجديد) عن أن هذا الفيلم يكشف هنا عن أكبر أسراره، "ويتضح أن المعلقة الإنكليزية - التي لم تلعب أي دورٍ حيادي طوال الفيلم - لم تكن سوى مارغريت تاتشر، مصاصة الدماء الأخرى ووالدة بينوشيه، التي تحضر إلى مسرح الحدث وتدفع ابنها للتخلص من عشيقته الراهبة وزوجته وخادمه الروسي. وبعد أن يتخلص الأخير من الراهبة. هنا، يعود الجنرال إلى كامل قوته، ونعرف أن الأبناء قد خرجوا خالي الوفاض من هذه الملحمة التي تكسب فيها تاتشر وابنها دماء جديدة، تعيد الأولى إلى منتصف عمرها وابنها إلى سن الطفولة، حيث ينتهي الفيلم أمام مدرسة في تشيلي، ملمحاً لكتابة عمر جديد للشر". أي الخلود. ويشير هذا المقال إلى أن "بينوشيه لم يُدَن حتى وفاته، ولم تغلق قضيته حتى يومنا هذا، ولا يزال شبحه -في تشيلي على الأقل- يطوف بحرّيّة، ويعاود الظهور في المناسبات الرسمية والأيام المفتاحية، برفقة المرشحين الرئاسيين أحيانًا، وبجانب صور من اختفوا أو ماتوا في السجون مرات أخرى". علماً بأن بينوشيه قد أُجبر على التنحي عام ١٩٩٠، وبقى حياً لغاية عام ٢٠٠٦، حيث توفى عن عمر يناهز ٩١ سنة، وتنتظره مئات القضايا والتهم دون أن يحاكم. لذلك تمكن هذا الفيلم الميلودرامي المأساوي الساحر أن يقدم رسالة بخلود الدكتاتوريات العالمية، والمتمثلة في الجنرال بينوشيه، "في الواقع؛ كان مصاص دماء خالد وزيف وفاته-يكشف ذلك في أحد مقاطع الفيلم- حتى يتمكن من تجنب الملاحقة القضائية ويعيش حياته في سلام في مزرعة نائية، يعيش على عصائر مغذية مصنوعة من قلوب بشرية ويجلس على الثروة الهائلة التي جمعها خلال عهده في السلطة".

يوضح المخرج لارين “توفى بينوشيه مليونيراً وحراً بعد إفلات تام من العقاب، وبسبب ذلك، أعتقد أن شخصيته لا تزال مثل وصمة عار مظلمة على مجتمعنا تذكرنا كل يوم بمدى كسرنا ومدى انقسامنا. أدرك المشاهد منذ البداية أن استعارة مصاصي الدماء هي نقطة انطلاق مثالية لتصوير وحش يلتهم شعبه لمدة 17 عاماً، ونهب ثرواته وأمر بالسجن والتعذيب وإعدام أكثر من 40000 تشيلي، بينوشيه لم يواجه العدالة أبداً والإفلات من العقاب جعله أبدياً خالداً وحوله إلى مصاص دماء”.

هذه الأسرة الحاكمة المستبدة، بينوشيه الدكتاتوري وزوجته وأبناؤه وخادمه الروسي، مارسوا كل أنواع الموبقات، ضاجعوا كل النساء والرجال، أقاموا كل أنواع الحفلات، وبددوا كل أموال الدولة على النبيذ الرخيص والمخمل المزيف، وفازوا بالحروب على الشعب وأسسوا البلاد من جديد. ثم تركوها بِلا حول ولا قوة، وجُرّدوا من شرفهم.



طريقة الوصول إلى الثراء

هذا الدموي المستبد استخدم سلطته ليصبح ثرياً، كيف؟ ككل المستبدين أصحاب النفوذ والسلطة، كيف، مرة أخرى؟. لقد كان بينوشيه لواءً قليل الكلام، ولكنه كان لواءً مثقفاً!، وطُلب منه أن ينفذ انقلابا لإسقاط نظام "أليندي" الماركسي اللينيني. وبعدئذ أحاطه رجال نبلاء راقون ينضحون برائحة العطر، إلى أن جاء شخص- يبدو كان أمريكياً- وكان راقياً جداً وعرض عليه مالاً ضخماً سرياً ومضموناً عبر فتح حساب مصرفي سري في أحد المصارف الكاريبية. وبعد فترة من الزمن جاء وطلب منه صنيعاً، فقد أراد أن يشتري شركات مملوكة للدولة بثمن بخس!، ورغم إدراك هذا المستبد بأن هذا الأمريكي يبتزه، إلا أن أمثاله انهمروا عليه من كل صوب، وعرضوا عليه كل ما تشتهيه نفسه، باختصار: صار الدكتاتور العسكري ثرياً بعد الانقلاب.


التعذيب

المحيطون ببنوشيه الديكتاتوري، منهم الجلاد المتخصص في التعذيب، وهو خادمه المطيع، الروسي الذي هرب مع عائلته بعد انتصار الثورة البلشفية، واستقر في تشيلي، حيث يعترف بأن الجيش التشيلي علمه التعذيب "كقيمة". حيث تم تدريبه من طرف معلمين متخصصين في طرق التعذيب يتقاضون رواتبهم من الحكومة التشيلية. يقول هذا الجلاد: " أثناء التعذيب، فإن التهديد بالألم أكثر فعالية بكثير من الألم الحقيقي. لأنه خلال ذلك الانتظار المؤلم، يجمح الخيال، وتنهار الروح والإرادة والتحدي".



اللونان الأبيض والأسود

الفيلم من بدايته وحتى النهاية، لا نشاهد الأحداث والشخصيات إلا باللونين الأبيض والأسود فقط. الأسود والأبيض في هذا الفيلم لم يكن هدفه إبراز جماليات هذين اللونين وظلهما وانعكاساتهما كما نفذه بعض المخرجين العالميين في أفلامهم، بل أعتقد أن مخرج هذا الفيلم تعمد بشكل مكشوف وفاضح عدم استخدام ألوان أخرى فيها "حاسة" أو "شعور" بالفرح والبهجة والحب والراحة والسعادة والحرية. وتعمد أن يحول اللونين الأسود والأبيض رمزاً وإحساساً وشعوراً للقبح والاشمئزاز والكراهية والقمع والقتل والاستبداد. بل حتى البياض في هذا الفيلم غير الملون كان داكناً، باهتاً، لا شعاع ولا بريق ولا سلام واطمئنان فيه، كان يعطي للحواس الكآبة!. أليس هذا إبداعاً عظيماً من هذا المخرج؟!!.

أوضح المخرج لارين في البيان الصحفي للعرض الأول أن “الأبيض والأسود سمحا بتراكم الأفكار حيث كان على قصة بينوشيه أن تمتد 250 عاماً. يمكن للمرء أن يقول إن نقص اللون يحاكي أيضاً حقيقة شكل بينوشيه الحقيقي وافتقار القلب للرحمة”.


الموسيقى

بالإضافة إلى جمالية إبراز دلالات اللونين الأبيض والأسود، هناك دلالات واضحة وجميلة في الموسيقى المستخدمة في هذا الفيلم. "فمنذ اللحظة الأولى في الفيلم، يصدح مارش راديتسكي معلنًا البداية، منتقلًا بين الأوسمة والصور والتذكارات، قبل أن ينتهي عند سرير مصاص الدماء العجوز ومبولته. والواقع أن العنصر الموسيقي ينجح في دوره بتدعيم هذا المزيج، إن كان ذلك في الكوميديا أو في الأجزاء الأكثر عنفًا، بالاعتماد على قائمة تشمل مؤلفين مثل هنري برسيل وفيفالدي وفيردي، وقد عمل الموسيقي خوان بابلو أبالو على إعادة توزيعها وتسجيلها". حتى في لحظة اقتراب الموت من بينوشيه، ورغبته في التعبير عن مشاعر الحب والعشق والجنس مع زوجته، يرقصان ليس على أنغام الڤالس أو السوناتا، بل على مقطوعات أنغام عسكرية مارشالية، وكأنها رسالة فاضحة بأن هذا الدموي المستبد حتى لحظة حبه ورقصه يعشق العنف و"العسكرة"، بكل ما تحمل هذه الكلمة من دلالات تناقض السلام والحب والعدالة والحرية والمساواة.

يشير الناقد علاء حسن في ختام مقاله، بأن (“الكونت” فكرة قديمة تستند إلى أخطر المفاهيم المحتملة، وهي أن شخصية مثل بينوشيه قد تكون أبدية في جانب معين.‏ ويمكن أن يكون لذلك تفاعل مثير للاهتمام مع التصور الأدبي والرومانسي لمصاص دماء، فقد أراد المخرج لارين أن يدق جرس الإنذار حول خطورة الأنظمة الدكتاتورية وصعود اليمين المتطرف، ذلك الجزء من طيفنا السياسي الذي يمكن أن يغازل العنصرية في الكثير من الأحيان، موجود دائماً لتذكيرنا بأنه يمكن أن يعود في أي لحظة).

يوضح المخرج لارين هذه الجزئية قائلا “في الوقت الحاضر، في العديد من البلدان في أوروبا وخاصة في تشيلي، رأينا كيف يستكشف هذا اليمين السياسي طرقاً جديدة لغزو الناخبين والاستيلاء على السلطة. وفي بعض الأحيان تتم إعادة قراءة برامجه (اليمين المتطرف) بطريقة يمكن أن تكون خطيرة. أنا أتحدث عما يجري، في بلدي وكذلك في أميركا وفي العديد من البلدان في أوروبا. ما أود قوله هو أن الفاشية تأتي بأشكال مختلفة. وأحياناً تصعب قراءة بعضها، لأنها تبدأ بالإغواء، ثم تنتقل إلى الخوف وتنتهي بالعنف. وهذا شيء نراه مع صعود اليمين في العديد من بلدان العالم”.

الفيلم رمز أو استعارة عن الدكتاتورية الحديثة المتمثلة في صعود اليمين المتطرف في أوروبا أو أميركا اللاتينية؛ “إنه ضروري أيضاً لأن رياح اليمين المتطرف لا تهب فقط في تشيلي. إنها تهب في جميع أنحاء العالم”. ويؤكد بابلو لارين وطاقم فيلم "الكونت"، أن تصوير بينوشيه على أنه مصاص دماء “ضروري” وسط عودة الجناح اليميني العالمي.

73 views0 comments
bottom of page