top of page

الكتابة في الظلام





بدأ الامر منذ اوائل السبعينات، عندما كانت القصيدة تراودني في النوم، فأسحب الورق، وأبدأ الكتابة. ودون ان أعي ما كنت افعل، اكتب مسودتي بداية في بياض الورقة واواصل الكتابة على مفرش السرير. وفي الصباح تذهب زوجتي لغسل بقية نص المسودة بماء البيت، بعد ان تحتفظ بما علق بغطاء السرير من كتابة. لكن بعد ان انقل بقية النص الى الورق.


٢-


عندما ابدأ كتابة المسودة، لا اتوقف عند حدود الورق، فالتدفق الضاري هو الذي يقودني ولا اعرف حدود الورق من سطح قمّاش مفرش السرير، وفي ذلك مثلبة لا أفهمها، لكن المهم هو الاستجابة الحميمة لما تذهب إليه الكتابة. والمهم آنذاك أن أكتب المسودة.

وتعلمت يومها أن لكتابة الشعر طقساً تقترحه الكتابة نفسها، وما على الشاعر سوى الاستجابة لذلك. وكنت شغوفاً بما تأمر به الكتابة. كان ذلك في سبعينيات القرن الماضي. وقد اعتدت على افساد مفارش البيت، مستجيباً لانجاز مسودات قصائدي. وزوجتي تسهر على تنظيف المفارش من الاخبار، بعد الاحتفاظ بآثار الكتابة على المفارش.


٣-


لم يكن الامر اختيارياً، فما إن توقظني القصيدة، حتى أتناول الورق والقلم من الطاولة القريبة من السرير، وأكون قد اختزلت الوقت وجعلتُ من سرير النوم مكتباً افتراضياً عليه ان يحتمل صنيع الشعر في مختزلات الزمان والمكان التي استجيبُ بها لضراوة الشرط الشعري.


٤-


يبقى أن عادة الكتابة في الظلام ترعرعت في حياتي كما لو أن الضوء يغمر المكان.

كنت أتفادى نزع الحالة الشعرية، بالقيام من السرير لفتح النور والجلوس على المكتب، كنت اعتقد مؤمناً بأن تلك العملية من شأنها طرد الحالة الشعرية المقترحة. لذا اتناول القلم والورق، وأنا في مكاني، وأطفق في الكتابة مباشرة.


٥-


بعد ذلك. انتقلت تلك العادة في ظرف قسري، في زنزانة الاعتقال تصبح عادة الكتابة في الظلام مسألة ضرورية، اعتمدت فيها تقنية الكتابة في الليل وفي الظلام خصوصاً، لكي استفرد بالشعر وتستجيب الكتابة لشرطها بالرحابة التي يستحقها الشعر.

الكلمات تضيء لي الطريق، والحروف قناديلي على الورق المجعلك القديم.

ورق علب السجائر يرافقني في النهار والليل. اكتب في النهار، لكن الليل يكتبني.


٦-


اختار زاوية الزنزانة. ثمة رغبة باب عزلة في ذلك الاختيار. البسط مفروشة على الارض. وحدك تقابل الجدار ملتصقاً بالأرض المغسولة بعرق الصيف، المصانة بدفء مفقود في شتاء الزنازين. وحسب نظام السجن، سوف يطفئون النور في الزنازين منذ بعد وجبة العشاء مباشرة، وعادة عند الرابعة والنصف بعد الظهر يأتون بوجبة العشاء. وليل السجن يخيم في الخامسة، وقبلها دائماً. القاعدة في السجن هو الظلام، النهار ليس مضاءاً عادة.

واذا صادف انك ترى، فليس لأبعد من باب الزنزانة، من الداخل، في السجن ثمة من يرى عنك، دون ان يكون دليلاً. الرؤية لا تكون نظراً. ربما هو عادة لا يرى لك، فقد يرى عليك.


٧-


أتذكر في زنزانة قديمة في القلعة القديمة في معسكر سافرة، بعد أن قضينا مئة يوم في الزنازين الخشبية (الصناديق)، بعد أن تم نقلنا من سجن (جده). زنزانة ليست مجهزة للسجن، مخزن قديم من عدة مخازن في معسكر تدريب الشرطة. تم تفريغها ووضعنا فيها أربع مخازن، متفاوتة الاحجام. تم تفريغها وتكديسنا فيها، بمجموعات عشوائية. نرى أنفسنا ونحن نلتقي معاً، بعد قضاء مائة يوم كل شخصين في (صندقة) واحدة. وكان رفيق زنزانتي المرحوم "عبداللطيف راشد الغنيم".


٨-


في زاوية الزنزانة القديمة، مقابلاً الجدار. ما إن يبدأ الظلام حتى أدخل عزلتي، متفادياً (حلطمة) رفاق الزنزانة وهم يلجأون الى عتماتهم. ثماني كائنات يتحول نهار الزنزانة، بهم، الى ورشة أشغال مختلفة، لا نكاد نصادف وقتاً فائضاً طوال اليوم. "عبدعلي المقهوي" رحمه الله يعتكف على استخراج اكبر عدد من الاوراق (القراطيس) من كرتونات علب بودرة الصابون يساعده صالح علي مكي" قصير القائمة الذي ما إن يتحرش بح أحد حتى يرد عليه متهكماً على قصر قامته، حتى يرد عليه ساخراً ( خلك انت مركب نجوم السما). و"سلمان واخيه ابراهيم علي كمال الدين" يتفننان في تنظيف وخرم نواة الزيتون اليابسة. "فؤاد وأخيه جاسم سيادي" يعملان على دمج وكسر خيوط الابريسم والعمل على شكّ السبحات، وقطع "الكراكيش" لها، واحيانا يعمل جاسم على تبييض وكتابة القصائد والنصوص الادبية لتداولها او تخزينها بخطه الصغير والمستصغر.

والشاعر "علي الشرقاوي" عافاه الله، يدربنا على رياضة الوقوف على الرأس، وهو الخبير في رياضة الجمباز. يومها سيكون الوقت أقل من العمل.

كان جميعنا ينهمك في العمل لكن اذنه على حركة الشرطة الحراس خارج الزنزانه في باحة السجن.


٩-


وعندما يبدأ (خرمس) الليل في الاستحكام، يكون كل منا قد دخل، أو أوشك على الدخول في احلامه. وأتذكر أنني أستغرق في الاستفراد بالكتابة. وتنقذني موهبة الكتابة، من كواليس النوم، فكثير مما ينجزه "عبدعلي المقهوي" مبتهجاً من أن اوراقه يجري استهلاكها في سهرتي الليلية. وكان الفرح يغمر عبدعلي المقهوي عندما يستيقظ في الصباح ويجد أن اوراقه يستهلكها "فأر السهرة".


١٠-


كنت أجد الكلمات وهو تتوهج في خرمس الزنزانة على الورق المجعلك. واجدها مبسوطة بجانبي على خرقة الفراش. تلك القصيدة التي كتبتها في الظلام. وعندما كنت مستغرقاً في كتابة قصائد "قلب الحب" كنتُ قد كتبتُ نص بعنوان (تصوري)

أشتُهرَ باسم "فأر السهرة" هذا هو: تصوّري


(يسمونني فأر السهرةتصوّريما ذنبي إذا كنت أفشل دوماًفي السيطرة عليك في داخليويقولون أنني فأر السهرةتصوّري ما الذي يحدث في الليلحين ينام الرفاقأحسّك تنداحين هنا .. هناكالموجة العظيمة في قلبيكيف يمكن اخفاء ذلك ..أو السيطرة عليه ؟ساعتها ألْتَصقُ تماماً بقلبيأحضنه وأنتفض معهونتكئ معاً على إبرة الأزرقنُحدِثُ أصواتاً رفيعةًرفيعة جداًبحيث يتحول صمت الليل الى ضجةوواحداً واحداًيُطلُ الرفاق من أحلامهمويعتقدون أن فأراً يستفرد بقطعة الخبز اليابسة.وفي الصباحيكتشفون أنني كنت ألقّنُ الشعر ..درساً في اللياقةفيصرخ بي أحد الرفاق ضاحكاً :أيها الفأر الذي يسهر متأخراً ..هلاّ سهرت أكثر ؟؟)


١١-


وفي الصباح يجد الرفاق على فراشي، (جسداً مريضاً وقصيدة نشيطة).


505 views0 comments

Recent Posts

See All
bottom of page