top of page

حينما تكون الصورة مشروعاً لترميم أوجاع البشر



لم يكن دور المصوّر الأمريكي ليويس هاين في التصوير الوثائقي الاجتماعي لعمالة الأطفال صدفة، ابتداءًا من تجربته الشخصية لأهم أحداث حياته، كان كل شيء يحدث لسبب وبسبب كما يقول السنعوسي في ساق البامبو.

توفي والد هاين وهو لا يزال طفلًا، فاضطرته الظروف للعمل في مصنع لساعات طويلة حتى يتمكن من إعالة أسرته. بعد ذلك التحق بوظائف عدّة قبل أن ينضم للدروس الجامعية ويعمل كمدرس بتشجيع من مدير المدرسة "فرانك ماني". بالإضافة لتعليمه الجغرافيا، أوكل إليه مدير المدرسة مهمة تصوير وتوثيق المجالات الأكاديمية والاجتماعية داخل المدرسة. لم يكن هذا القرار عاديًا، بل نقطة تحول ليس في حياة هاين فحسب، بل في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية.

استطاع من خلال هذه المهمة، استيعاب قدرة الصورة على توثيق لحظة ما، وبشكل أكبر وأهم، رأى أن في مقدوره مناصرة الحقيقة من خلال الصورة. منذ هذه اللحظة، كان ليويس رسولًا للحقيقة. لحقيقة الأطفال العاملين تحت رحمة المصانع والمطاحن ، وغيرها من المؤسسات التي لم يتوانى أربابها في استغلال الأطفال لزيادة أرباحهم.


كان اهتمامه بالأطفال مرتكز في جانبين. جانب مهني وذلك يتجلّى في دراسته البيداغوجيا ووظيفته كمعلّم. لم يكن هاين تقليديًا في أسلوب تعليمه. اعتقد أن للصورة دور تعليمي مهم، و بدأ بكتابة المقالات عن أهمية استخدام التصوير كأداة تعليمية. أمّا الجانب الآخر فكان إنساني، متمثّلًا في اهتمامه بالتصوير الوثائقي، ونقل تجربة إنسانية على المدى البعيد.

ليطوّر نفسه في مجالات اختصاصه، تعلّم السوسيولوجيا في Columbia School for Social Workويبدو أن لهذا فضل أيضًا في توسعة علاقاته ومعارفه مما أتاح له فرصة العمل مع اللجنة الوطنية للأطفال العاملين National Child Labor Committe والتي استطاعت في 1938 الحصول على موافقة الكونغرس والرئيس فراكنلن روزفلت على القوانين التي وضعتها والتي تنص على منع المتاجرة التي تقوم على استغلال الأطفال "تشغيل من هم دون ال16 سنة، أو تشغيل من في أعمار ال16 لل18 في أشغال خطرة".


لم يكن الوصول سهلًا، وعندما بدأت شهرة المؤسسة بالانتشار بالأخص، أصبحت مهمة هاين أصعب. لن يسمح له – لو عرفت نواياه – بالدخول لأماكن العمل للتصوير، ولذلك، كان يتخفى بأقنعة مختلفة كل مرة. فمرّة يدّعي بأنه بائع بطاقات بريدية أو للإنجيل، ومرّة أنه مصوّر لآلات المصانع وأخرى أنه يقوم بفحص الآلات وتسجيل أي عطل.

إن السياق مهم جدّا في التصوير الوثائقي، ولذلك لا تكاد تخلو أي صورة ملتقطة له من شرح يذكر فيه اسم الطفل، عمره، وطبيعة عمله.

قبل أن يلتقط الصورة، كان يدوّن في ورقة صغيرة التفاصيل. فيقدّر أعمار الأطفال من خلال طولهم. يقف بمحاذاتهم، ويعتمد أزرّة قميصه كمقياس للطول.

يحدثهم فيسألهم عن أعمارهم، ويعرف منهم طبيعة أشغالهم، وعمر اشتغالهم فيها.

حرص هاين على تدوين المعلومات، وكتابة شرح أسفل كل صورة. هذا أشبه بقصة كل طفل، القصة القصيرة جدًّا. لو أن بعض الصور جاءت من غير هذا الشرح، وخارج هذا السياق، لم نكن لنعرف الرسالة التي كانت تحرّك هاين. لربّما رأينا في صورة "لورا بيتي" فرح وطمأنينة. طفلة تلبس فستان وربطة شعر أنيقة، وتقف مبتسمة للكاميرا، خلفها حقل جميل. ربما فهمنا أنها تلعب مع بقية الأطفال؟ أو أنها في نزهة مع عائلتها؟ أو أنها تجمع التوت لتأكله لا غير.. قبل أن نعرف أنها – ذات الست سنوات – تعمل في المزرعة، تمشي حافية القدمين لجمع التوت، معرضة قدماها للشوك المتناثر في كلّ يوم.


كيف يلتقط هاين صورًا للأطفال العاملين؟

تطالع الصور فتشعر أن الاطفال ينظرون إليك مباشرة. لم يكونوا دمىً متحركة، بل قصة إنسانية. كان يحرص على أن يكون مستوى نظرهم بنظره، فإذا كانوا صغارًا جدًّا انحنى على ركبتيه، حتى تخالهم ينظرون إليك مباشرة من خلف الصورة.

هل أثّرت عيون الأطفال البريئة في أصحاب القرار، مما دفعهم أخيرًا للاستجابة للّجنة الوطنية للأطفال العاملين؟ هل كانت نظراتهم المجمّدة هي لحظات المواجهة التي لم يستطيعوا يومًا أن يقدموا عليها، فقامت صورهم بذلك عوضًا عنهم؟

لقد كان لهاين عين ترى، وتؤمن، وكاميرا تلتقط الحقيقة. وعلى مرّ الزمن، استطاع هاين بالصورة، الانتصار لهذه الحقيقة. لم تكن الصورة وحدها، السبب في تعديل القوانين الخاصة بعمال الأطفال. ولكنها حتمًا، كانت وسيلة جريئة ومؤثرة، في جعل الظلم بصريًا ومرئي، ووضع المتسببين في زاوية من المواجهة، والمسؤولية.



39 views0 comments
bottom of page