top of page

سارتر في غزة.. توازن سياسي، أم مأزق أخلاقي ؟



توحي الصورة بأجواء أحد الأعراس. ولكنها ليست كذلك، فقد إلتقطت في إحدى مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في غزة في مارس ١٩٦٧ .  لا يمكن للعين أن تخطئ رؤية سارتر وهو يحدق متوجسا باتجاه الطفل الفلسطيني المتسلق على الجدار .  سيمون دي بوفار ( أقصى اليمين ) تنصت مرهقة، وببرود الى المتحدث( الذي لا نرى منه  سوى إصبعه في أقصى يسار الصورة )  فيما يركز أحد كبار المسئولين المصريين على كل كلمة تقال أمام الضيوف. 

 ولكن... ماذ ا كان سارتر يفعل بالضبط في غزة؟  


محمد ديتو 

تبدأ القصة في النصف الثاني من ستينيات القرن الماضي، في سياق عالمي إتسم بتصاعد موجات التضامن الأممي مع نضال الشعب الفلسطيني، خاصة في أوساط اليسار  بمختلف تياراته . في شارع بونابرت الباريسي ، كانت شقة رائد الفلسفة الوجودية سارتر مجاورة لسكن رئيس رابطة الطلاب العرب ، طالب الدكتوراه  والناشط المصري "علي السمان"، الذي كان دائم التردد على الفيلسوف محاولا استمالته وإقناعه بتأييد ومناصرة قضية العرب الأولى فلسطين . سارتر من جانبه، كان يراوح ما بين عدم الافصاح عن موقف واضح ، أو بالتعذر بأنه غير مطلع بما فيه الكفاية على الحقائق على أرض الواقع لحسم موقفه.  ( كان سارتر ينظر لموقفه، عبر استخدامه لتعبير  راج لاحقا، وهو مصطلح "الغياب"- أي أنه غير موجود بالاساس حتى يعبر عن موقف -،وهو مصطلح فلسفي يراد منه أن يعكس موقف الحياد.) 

بعد عام من تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية ، وفي وقت ما من  ١٩٦٥ ، سيقرر سارتر أن الوقت قد حان بالنسبة له للتصدي لهذه الإشكالية المعقدة ( الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي) ، عبر القيام بزيارة ميدانية لتقصي الحقائق، تشمل مصر وغزة وإسرائيل ليطلع بنفسه على الوقائع ويستمع إلى مختلف الآراء،  حتى يتمكن من حسم رأيه، ويسمي الأشياء بمسمياتها. كان ينوي نشر رأيه  في عدد خاص من مجلة "الأزمنة الحديثة" التي كان يشرف عليها ، ويدير تحريرها صديقه "كلود لانزمان" . بغية إفساح مجال لمختلف وجهات النظر، فقد تقرر دعوة كتاب من طرفي الصراع، بالاضافة إلى مفكرين فرنسيين للمساهمة في العدد المنشود. إستغرق التحضير للزيارة المرتقبة أكثر من عامين. تكفل " علي السمان" بترتيب موضوع زيارته الى مصر، بينما قام "لانزمان" بعمل اللازم فيما يتعلق بزيارة إسرائيل.  

 الكاتبة الصحفية عايدة الشريف، التي رافقت الوفد طوال أيام الزيارة كمراسلة لمجلة "الآداب" البيروتية، سجَّلت وقائع تلك الرحلة في كتابها "شاهدة الربع قرن" .غالبية ما ذكرته في كتابها، مطابق لذكريات "علي السمان" في كتابه " أوراق عمري" ، وقد إعتمد عليهما لاحقا المؤرخ" يوآف دي-كابوا " في كتابه عن تلك الرحلة بعنوان "لا مخرج.. الوجودية العربية، جان بول سارتر وزوال الاستعمار".  



 في ٢٥ فبراير ١٩٦٥ ، أرسلت الحكومة المصرية طائرة خاصة  لتقل سارتر ومرافقيه ( سيمون دي بوفار - كلود لانزمان)  من باريس إلى القاهرة حيث سيكون في إستقبالهم في المطار نخبة من كبار مثقفي وكتاب مصر  : لطفي الخولي، أنيس منصور، حسين فوزي، لويس عوض، توفيق الحكيم . بعدها انتقل الوفد الى فندق "شبرد" بالقاهرة،حيث سيقيم فيه ستة عشر يوما. كان لطفي الخولي المشرف الفعلي على الزيارة قد حدد هدفين واضحين : الأول تعريف سارتر بجهود مصر في بناء مجتمع جديد بقيادة جمال عبدالناصر ، ثانيا الاستجابة لطلب سارتر ورفاقه في تمكينهم من جمع معلومات دقيقة ميدانية عن القضية الفلسطينية عبر زيارتهم لقطاع غزة الواقع آنذاك تحت الحكم المصري، والتعرف على مشاكل اللاجئين عن قرب.  


مطلع مارس ١٩٦٧ سافر الوفد إلى غزة على متن طائرة خاصة باتجاه مطار العريش ، ومن بعدها استقلوا السيارات لزيارة ثلاثة مخيمات لاجئين: جباليا،  دير البلح، خان يونس. كان برنامجا حافلا ومتعبا في نفس الوقت (  وجه سيمون دي بوفار المرهق في الصورة ) . عايدة الشريف سجلت بدقة ماحدث، خاصة الحادث في بداية الزيارة الذي عكر مزاج سارتر :

 " يجري طفل بيده لفة مستطيلة  الى سارتر ويسلمها له..فيفضها تلقائيا، ويلتقط المصور الصورة ويجري "لانزمان" إليه ليسر في إذنه :أن ما بيده ليس إلا علم المقاومة الفلسطينية..فيثور سارتر ويفور...ويجري وراء المصورالصحفي الذي إلتقط الصورة..خوفا من استغلالها لتجيير موقف سارتر لصالح  المقاومة..ويصر على إخراج الفيلم وتعريضه للضؤ...ويتم له ما يريد.."

بعد أن هدأت ثائرة الفيلسوف، وتأكد من عدم وجود "أدلة "يمكن أن تستغل ضده، واصل الوفد مسيرته عبر زيارة لمنازل اللاجئين. حينها رأى  سارتر حجم الفقر والبؤس الذي تعاني منه العوائل الفلسطينية وهي تنتظر عودتها الي ديارها بعد ثمانية عشر عاما من "النكبة". طرح الأسئلة، وإستمع للإجابات " وكان تأثره على أشده عندما إستمع لحديث السيدة عفاف الإدريس، المدرسة بوكالة غوث اللاجئين ( الأنروا) وزوجة وأخت لشهيدين من خان يونس" . في درب عودتهم الى مركز المدينة، إلتقى سارتر بأحد المزارعين، عز الدين الشوا، وسأله : " هل الفلسطينيون وحدهم الذين سيحررون بلادهم أم إنهم سيطلبون مساعدة الدول العربية الأخرى؟ فيأتيه الجواب بأن  الفلسطينيين أنفسهم هم الذين سيقومون بتحرير وطنهم. ويسأل سارتر عن النظام الذي يراه واجب الإتباع عند النصر على الإسرائليين...وكيف سيعاملون هذه العناصر وهل سيرمونهم في البحر؟ وكان المتحدث من الحماس بحيث فات عليه المنطق. فقال: " سوف ننتصر أولا ثم نحقق ما تراه...عندئذ راجعه سارتر ..إنه لابد لكل ثورة من فلسفة...فمن الأفكار تنبع أكبر القوى وأغناها ....في هذه اللحظة تنبه لطفي الخولي لهذه الفجوة التي أحدثها الحماس ..فأوعز لإحداهن بالتحدث إلى سارتر...فتقدمت الآنسة عصام الحسيني لتجيب على مخاوفه حول مصير اليهود النازحين إلى فلسطين سواء من الدول العربية كالعراق واليمن ومصر..أو من أي منطقة في العالم ، فقالت ستختلف معاملتنا ، فالفئة الأولى لن يفرض عليها العودة الى تلك البلاد العربية...لأن فلسطين العربية ستكون لهم وطنا سواء بسواء...أما الفئة الثانية فعليهم أن يعودوا إلى بلادهم الأصلية لأنهم وقبل كل شئ أوربيون متهودون ، وليسوا يهودا عاشوا في أوروبا" 

هذه هي  بعض من تفاصيل زيارة سارتر لمخيمات اللاجئين كما وثقتها عايدة الشريف، وهي تعكس ما شاب تلك الزيارة من مفاجئات عكرت مسار  التخطيط الرسمي لها.  ولكنها أيضا تعطينا فكرة عن إسلوب سارتر في "تقصي الحقائق الميدانية" ، و تذكرنا بجولات مماثلة  لممثلي المنظمات الدولية الي تلك المخيمات . سيمون دي بوفار من جانبها ستكتب لاحقا عن إمتعاضها من تلك الزيارة، بل أنها ستلقي باللوم على الفلسطينيين في تردي أوضاعهم ( حسب ما ذكره المؤرخ " يوآف دي-كابوا " في كتابه عن تلك الرحلة). 





بعد عودتهم الى القاهرة وفي ختام زيارتهم التقوا بالزعيم جمال عبدالناصر في حوار استغرق ثلاث ساعات، إلا أن ما يهمنا في سياق موضوعنا، كان الحوار بين سارتر وعبدالناصر، خاصة ما يتصل بقضية فلسطين. وفق محاضر الاجتماع التي نشرها لاحقا محمد حسنين هيكل ( في كتابه "الانفجار" ) سأل سارتر عن إسرائيل، وقال: "هناك مجموعات فى إسرائيل خصوصا من اليسار يتفهمون قضية الشعب الفلسطيني"، فرد عبدالناصر: الموضوع ليس مشكلة تفهم، وإنما يتلخص فى مشكلتين: الأولي، الهجرة لإسرائيل، وباستمرار الهجرة لن تتسع إسرائيل للقادمين إليها وستلجأ للتوسع، وهذا سيؤدى إلى الحرب، والمشكلة الثانية أنه إذا كان هناك من يتفهم مشكلة الشعب الفلسطينى كما تقول من اليسار الإسرائيلي، فلا أظن أن لديهم ما هو أكثر من الألفاظ، لأن أهم حقوق الشعب الفلسطينى هى حق العودة، فإذا عادوا فسيصبحون أغلبية، وعندئذ تذوب فكرة دولة إسرائيل. " 

كان من المتوقع أن تساهم زيارة غزة، والحوار مع عبدالناصر ، في توفير  معرفة أفضل لسارتر ليحسم موقفه، إلا أن مسار باقي الرحلة في إسرائيل اتسم  بتعاطف سارتر مع تجربة المستوطنات الزراعية التي زارها ، التي فهمها كأنها نواة تجربة "إشتراكية" واعدة ، وتأثر بالناجين من الابادة النازية الذين إلتقاهم هناك . بدا وكأن كفة التأثير "العاطفي"  الناجمة عن زيارته المستوطنة الزراعية في إسرائيل قد تعادلت مع  تعاطفه مع اللاجئين في غزة ، فكانت الحصيلة هي تعميق شعوره بأن كلا الطرفين مظلوم. وبدلا من أن تتضح الأمور بالنسبة له، غرق في ضباب الحيادية التي إختارها لنفسه.    

سيعود إلى باريس ، وسيكتب في ٢٨ مايو مقالته الافتتاحية في " الأزمنة الحديثة"  التي سيؤكد فيها مرة أخرى على موقفه الحيادي من الصراع.  كانت أياما مشحونة بالتوتر عشية هجوم اسرائيل المفاجئ في حرب يونيو ١٩٦٧ .  في ٣٠ مايو ١٩٦٧  ستنشر "اللوموند" بيان المثقفين الداعم لحق اسرائيل في الوجود والتأكيد على سيادتها .  وقع سارتر ودي بوفوار جنبًا إلى جنب مع عدد كبير من الشخصيات البارزة الأخرى، مثل بابلو بيكاسو ومارغريت دوراس على هذا البيان . بدلا من مواصلة الحياد ، حل محله الانحياز الي حق اسرائيل في الوجود . كل ما سيأتي لاحقا من مواقف حتى نهاية حياته ، سيعتبر إستكمالا وتحديثا لموقفه في ذلك الصيف المشئوم من عام ١٩٦٧. 



 نستحضر هذه الأيام واقعة زيارة سارتر الى غزة، بعد مضي أكثر من نصف قرن عليها ، لا بغرض " النقد أو التشفي" ، بل بهدف التأمل والتبصر في  إشكالية مزمنة ، تتجدد باستمرار ، وهي سعي المثقف لايجاد توازن سياسي في مواقفه، يساهم في حل مأزق أخلاقي يعاني منه. في صلب هذا المأزق الأخلاقي نجد منظومة القيم التي يؤمن بها هذا المثقف التي تنتظر الافصاح عنها بوضوح في مواقف سياسية ملموسة، بدون نفاق ولا إزدواجية في المعايير.  حالة سارتر سببت الخيبة والحيرة للكثيرين ومنهم المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد على سبيل المثال لا الحصر.  ففي كافة مواقفه من حركات التحرر الوطني آنذاك ،كان سارتر واضحا، وحاسما ، في مواقفه المؤيدة لها ، سواء كان ذلك في كوبا، أو الجزائر، أو فيتنام . إلا عندما  يتعلق الأمر بالقضية الفلسطينية ، كان الأمر مغايرا. كان يبحث عن "إنصاف" كلا طرفي الصراع، عبر اتخاذ موقف يعتقد أنه متوازن سياسيا؟ ولكن لماذا لم يفعل ذلك في حالة الجزائر مثلا؟ 

باعتقادي هناك شئ ما، قابع في كهوف الوعي الجمعي الغربي، ناجم عن عقدة الذنب تجاه اليهود وما حدث لهم على يد النازية الألمانية، شئ يسبب لهم نوعا من "العمى الأخلاقي" إذا صح التعبير. هم غير قادرين- أو غير راغبين- في حسم موقفهم تجاه ضحايا اليوم عندما يقعون تحت ظلم ضحايا الأمس . فيلسوف فرنسي آخر معاصر لسارتر، وهو بيير بوردو ، عبر عن ذلك بقوله : كيف نختار بين ضحايا عنف عنصري بشكل خالص( اليهود)  وبين ضحايا هؤلاء الضحايا ( الفلسطينيين) ؟ قد يبدو ذلك معضلة فكرية وأخلاقية شائكة له هو ، ولكن ألا يكمن حلها ببساطة في أن ندين الظالم بغض النظر عن "تاريخه" ؟

هناك آخرون بالطبع  لم يسلكوا مثال سارتر، إذ  يكفي أن نعلم بأن علاقة الفيلسوف مشيل  فوكو قد إنقطعت نهائيا مع جيل دولوز ، مع أنهما كانا صديقين حميمين، ففوكو يويد إسرائيل، ودولوز يؤيد الفلسطينيين.   الشاعر والروائي "جان جينيه"  ، وبعيدا عن التنظير الفلسفي ، كان أكثر صدقا عندما قال في كتابه "أسير عاشق" واصفا  تجربة حياته مع الفدائيين:" لقد استقبلت هذه الثورة كما تتعرف أذن موسيقية على النغمة الصحيحة."  لم تكن لديه معايير مزدوجة عندما يتعلق الأمر بحرية الشعوب. عندما سأله ادوارد سعيد عن رأيه في سارتر قال جينيه عن موقف سارتر المتصلب في تأييد إسرائيل: "إنه على شيء من الجُبن. يخاف أن يتهمه أصدقاؤه في باريس بالعداء لليهود إن قال أي شيء في تأييد الحقوق الفلسطينية".


ادوارد سعيد

ولكن هل المطلوب من  الفلسفة الوجودية  أن ترشدك الى الموقف الصائب من القضية الفلسطينية، أو غيرها ؟ كان سارتر فيلسوف الوجودية الأشهر، ولكنه أيضا أبدع كروائي، وكاتب، ومسرحي، وناشط ملتزم تجاه نضالات الشعوب . هل نتوقع تكاملا وإنسجاما بين كل ذلك؟ ذات مرة قال سارتر الي علي السمان، حين احتد النقاش بينهم ، "لماذا لا تجزئني فتأخذ مني ما يعجبك وتطرح ما لا يروق لك" . نصيحة سارتر صالحة حتى اليوم، بل ولعلها تذكرنا بما ننساه غالبا : أن نتجنب  رفع سقف توقعاتنا من الفلاسفة والأدباء والفنانيين، ونحملهم ما لاطاقة لهم عليه، فهم ليسوا أنبياء  ولا قادة سياسيين ، وليس المطلوب منهم أن يكون كذلك.  لنفهم ونحكم على الفيلسوف بمضمون فكره ونوعية إبداعه، وينطبق ذلك على الشاعر، والروائي ، والفنان . كتب ادوارد سعيد عن سارتر "  لم يكن معصوما ولا نبوئيا، وإنما على العكس، كان موضع إعجاب بسبب الجهود التي كان يبذلها لفهم الأوضاع. "  على الأقل "كان يبذل جهدا" لفهم أفضل، وإن فشل في ذلك .

في مقالتها الهامة في" الفورين أفيرز"  بعنوان " جان بول سارتر ومشكلة أن تكون تقدميًا باستثناء فيما يتعلق بفلسطين" تشير  الكاتبة رقية زروق الى أن " موقف سارتر المحبط تاريخيًا ذو الطابع "التقدمي" الذي يستثني فلسطين منتشرا إلى حد ما في الولايات المتحدة بين التقدميين المزعومين. وهو ما يزال موقفا كريها ولا يمكن الدفاع عنه."   برأينا لا يمكننا إعتبار ذلك  ظاهرة " سارترية" خالصة، بل شائعة عند العديد من المثقفين ( كلود لانزمان، صديق سارتر ومرافقه في الرحلة الى مصر وإسرائيل، كان مناصرا للثورة الجزائرية، وماركسيا، وصهيونيا متعصبا لإسرائيل في نفس الوقت). ويبدو أن ظاهرة "العمى الأخلاقي" مقدر لها أن  تختبئ وراء الكواليس، حتى تكشفها كارثة إنسانية، ولنا في أحداث الربيع العربي أمثلة مشابهة ، لموقف سارتر تجاه مأساة الشعب الفلسطيني، وإن كانت بنسخ طائفية وعشائرية وغيرها من الهويات.    

182 views0 comments
bottom of page