top of page

غاندي والقضية الفلسطينية..



بين حدود عالمنا حيث يُكرر التاريخ نفسه مُتنكرًا بشخصياتٍ جديدة وأماكنَ مُختلِفة؛ لا يُمكن اجتياز الحاضِر بأقل قدرٍ من الخسائِر ما لم يكُن الماضي زادًا للمُفكرينَ والمُثقفين لا سيما إن كانوا من الفئة القادرة على التأثير في وجدان الجماهير، وبما أن القضية الفلسطينية وتداعياتها  من أهم القضايا المُعاصِرة في عالمنا العربي؛ يغدو تسليط الضوء عليها في كُل كتابٍ يُناقش باقةً من قضايا العرب والمُسلمين أمرًا يستحق الاهتمام، لئلا تُبددها رياح النسيان بتعاقب الأجيال من جِهة؛ ولمُناقشتها وفق زوايا رؤى مُختلفة ومُتباينة تمد يد العون لفهم ما يحدث اليوم من جهةٍ أُخرى، لذا احتلَّت تلك القضيَّة ثلاثة فصول كاملة من كتاب "غاندي وقضايا العرب والمسلمين" للمؤلف البحريني عبدالنبي الشعلة الذي لخَّصت كلماته مضمون الفصول الثلاثة على صـ160 بقوله: "لقد شكَّل الصراع بين العرب والصهاينة جزءًا واسعًا ومُهمًا في تاريخ العرب المُعاصر، وأصبحَت القضيَّة الفلسطينية هي قضيَّة العرب الأولى، وأدرَك غاندي بسهولة أن الصراع العربي الإسرائيلي هو في الواقع صراع سياسي وليسَ دينيًا كما يُحاول الصهاينة أن يُصوّروه، إضافة إلى أن لدى غاندي قناعة ثابتة ومُعلنة بأن الدين لا يُمكن أن يكونَ أساسًا متينًا لبناء دولة في العصر الحديث".




غاندي.. ونبذ العُنف :

بدأ اهتمام المؤلف بسيرة المهاتما غاندي في غمرة احتفال الهند بمرور مائة عامٍ على ولادته، حين ساقتهُ الأقدار إلى زيارة الهند عام 1969م لدراسة العلوم السياسية والإدارة العامة في "كلية القديس زيفير" التابعة لجامعة بومباي، وهناك كان مُحاطًا من كل الجهات بذاك الحضور الطاغي لتلك الشخصية المؤثرة في الوجدان الهندي المُعاصر – ومن ثم الوجدان العالمي- على مدى أعوام الدراسة الأربعة، فلاحظ أن الهنود – من دون استثناء- يعتبرونه أبًا لهم وصانع استقلالهم ومؤسس دولتهم الحديثة، وأنهم كما يذكر الكتاب: "بمُختلف انتماءاتهم ومواقعهم يُنادونه "بابو" أي "والدنا"، وكانوا وما يزالون ينظرون إليهِ بقدرٍ كبيرٍ من الاحترام وبقدرٍ أكبر بكثير من التبجيل والتقديس والتقدير، ولعقود طويلة، لا يكاد حديث سياسي يدور بينهم إلا وكان غاندي محوره أو على أطرافه... صـ17".

قد يكون من أهم مميزات هذا الكتاب تلك الرؤية التحليلية وعرض الحقائق التاريخية في إطارٍ من الشفافية بعين المؤلف الذي كان وعيه الثقافي والسياسي وقودًا لنجاحه في رحلة التدرج بين المناصب العُليا؛ ليُصبح عضوًا في مجلس الشورى، فوزيرًا للعمل والشؤون الاجتماعيَّة، ثم وزيرًا للدولة برئاسة مجلس الوزراء في مملكة البحرين خلال الفترة الممتدة بين 2002م-2005م، ثم يؤسس "الجمعية البحرينية الهندية" ويغدو رئيسًا لمجلس إدارة "دار البلاد" للصحافة والنشر والتوزيع، ويستمر برؤية الفُرص في مجالاتٍ تزدحم بالتحديات.. فتلك الشخصية التي استلهمت الكثير من أعوام دراستها في بلدٍ يتميز بتنوعه العرقي والإثني والديني واللغوي أتَّخذت من التعمُّق في مسارات حيوات كبار السياسيين والمُفكرين ورجال الأعمال في الهند مصدرًا للإلهام، ولم يكُن غريبًا أن يكون على رأس تلك الشخصيات شخصية غاندي الذي امتازت أفكاره بنبذ العنف ومُحاربة التعصُّب خلال هذه المرحلة التي تموج فيها المنطقة بعُنفٍ يزداد يومًا بعد يوم، ما يتطلَّب عودةً حكيمة إلى مراحل التاريخ التي استطاع أبطالها إنارة عتمتها بشموع السلام.



غاندي.. والمفاهيم اليهودية :

يبدأ الكتاب بمقولاتٍ للمهاتما غاندي منها مقولته التي أفصح عنها عام 1942م: "إنني في الواقع لم أنجذب إلى الصرخات المتعالية المنادية بإيجاد وطن قومي لليهود، كما لا تروق لي فكرة أن هذه الدعوة مستمدة من ترخيص في الإنجيل، وكذلك تشبث اليهود بالحنين للعودة إلى فلسطين. إن فرض اليهود على العرب خطأ فادح وعملٌ غير انساني، وما يجري في فلسطين اليوم لا يمكن تبريره بأي معايير أو مُمارسات أخلاقية"، ومن بين سبعة عشر فصلاً من فصول الكتاب التي تناقش علاقة غاندي بقضايا العرب والمسلمين أفرد الكتاب ثلاثة فصول للقضية المذكورة، جاءت عناوينها على التوالي: "علاقة غاندي باليهود وموقفه من الحركة الصهيونية"، "في مواجهة الضغوط الصهيونية"، و"الهند والقضية الفلسطينية".

بدأ استكشاف غاندي للمفاهيم اليهودية بقراءته التوراة المقدسة عندما كان يدرس القانون في لندن، وبسبب حساسيته المفرطة ومقته للعنف والقسوة وجد صعوبة في تقبُّل بعض الموروثات والمعتقدات اليهودية التي ترى أن الإنسان لا يعني أي كائن بشري غير الإنسان اليهودي، وعن هذا يقول الكتاب: "صار صعبًا على غاندي أن يستوعب أو يُصدق أن بعض النصوص التوراتية التي قرأها جاءت مستهينة بشكلٍ واضح بحقوق لبشر من غير اليهود، ومُمعنة في تحقير غيرهم من الأمم. كان غاندي يرفض ادِّعاء الأفضليَّة والعلو والتميُّز لفئة من البشر على غيرها، فقد رفض منذ البداية وجود طبقات عُليا وأُخرى سُفلى في تركيبة الهرم الاجتماعي حسب التقاليد والمُعتقدات الهندوسية، وأصبحَ حريًا به أن يرفض وينفر مما يدعيه اليهود من خصوصية وتميُّز وتفوُّق على الأجناس الأخرى عقليًا وأخلاقيًا، وأنهم الشعب المفضل والمُختار من الله دون سواهم من البشر..صـ 121".




تطابق بين المُعاناة..

في تلك المرحلة التاريخية الحساسة؛ لاحظ غاندي التطابق بين جوانب من مُعاناة الشعب الهندي الذي يرزح تحت وطأة ظلم الاحتلال البريطاني وقيوده التمييزية ضده ومعاناة الشعب الفلسطيني، كما أن الأعوام التي قضاها في جنوب أفريقيا ومُلاحظته عمليات الحصار والتهميش التدريجي للسكان الأفارقة الأصليين وغيرهم من الملونين، والقوانين التي تم استحداثها لتنفيذ عمليات ترحيل قسري لأكثر من 3.5 مليون أفريقي من أراضيهم وتجريدهم من ممتلكاتهم في سنوات الستينات والسبعينات والثمانينات، جعلته ينتبه إلى ما حدث عام 1948م في تزامُنٍ ملحوظ على أرض فلسطين، حيثُ "أُعلِنَ عن قيام دولة اسرائيل باعتبارها دولة يهودية خاصة بـ"الشعب اليهودي". وعلى إثر ذلك تم اجتثاث أكثر من 700 ألف فلسطيني من أراضيهم، وإزاحتهم عن أملاكهم، ومُنِع الباقون منهم من الوصول إلى أملاكهم. كما منعت القوانين الإسرائيلية الفلسطينيين من امتلاك أو تأجير الأراضي داخل اسرائيل، وأصبح الفلسطينيون يمتلكون 3% فقط من الأراضي في وطنهم المُغتَصَب.. صـ137".

ورغم كافة الضغوطات التي تعرض لها غاندي للإعلان عن رأي صريح يتفق مع قيام الدولة الصهيونية، إلا أن مبادئه النابذة للعنف ظلَّت ترفض الإعلان عن رأي من هذا النوع رغم تعاطفه مع بعض اصدقائه اليهود الذين بذلوا ما بوسعهم للتلاعب بأوراق الابتزاز العاطفي على أمل انتزاع هذا الرأي المُعلن، وإذا برأيه يتضح في صورة مقال نشره على صفحات جريدة "الهاريجان" الصادرة في 26 نوفمبر 1938م جاء فيه: "لماذا لا يعمل اليهود كغيرهم ويتصرفون كما تتصرف بقية شعوب الأرض، ويجعلون وطنهم هو البلد الذي يولدون فيه ويكسبون فيه رزقهم؟ إن فلسطين تخص العرب مثلما إنجلترا تخص الإنجليز، وفرنسا تخص الفرنسيين. إن فرض اليهود على العرب خطأ فادح وعملٌ غير انساني، وما يجري في فلسطين اليوم لا يُمكن تبريرها بأي معايير أو مُمارسات أخلاقية. ليس هُناك أي أساس لهذا التوجه سوى الحرب الأخيرة، وبالتأكيد، فإن القيام بتقليص العرب حتى يُمكن أن تُمنح فلسطين كُليًا أو جُزئيًا لليهود كوطنٍ قومي لهم ستُصبح جريمة ضد الإنسانيَّة.. صـ 152-153"

174 views0 comments
bottom of page