top of page

قوة الموسيقى والسيطرة على الوقت في فيلم Tar



الفيلم الأميركي Tar -أكتوبر 2022- من إخراج وسيناريو الممثل الذي غاب عن عالم السينما حوالي 16 عاماً "تود فيلد"، ليعود في هذا الفيلم مع الممثلة التي أجادت دورها بامتياز "كيت بلانشيت".

يتناول الفيلم قصة الملحنة العبقرية ليديا تار التي أصبحت أول قائدة أوركسترا ألمانية كبرى، ولقد تمكن المخرج تود من خداع الكثير من الناس، وجعلهم يعتقدون أن ليديا تار شخصية حقيقية، وهذا الفيلم عبارة عن سيرة ذاتية لها. لكن قصة الفيلم بشخصياته جميعها من وحي الخيال. أما ما جعل المشاهدين يعتقدون بأنها حقيقية هو ارتباط القصة بالحقيقة الواقعية في عالم الفن والثقافة. فهي حكاية عن شخصية فنية وصلت إلى قمة المجد والشهرة، وسقطت بسرعة نتيجة الغرور، و(التحكم) و(السيطرة) على العاملين والعاملات معها، وعلى العازفين والعازفات في الأوركسترا، و"تنمرها" الفاضح على طلابها في المعهد الموسيقي. ولقد جَسَّدت تار بالفعل دورها في الحياة وكأنها تتعامل كقائدة فرقة موسيقية. وسواء بشعورها أو لاشعورها، كانت (تتحكم) و(تفرض) قناعاتها و(عصبوياتها النسوية) والأهم (زمنها) هي دون مراعاة لمشاعر وأحلام ورغبات و(أزمان) المحيطين بها، المحبطين منها!. كل ذلك توضحها تار في المشهد الأول من الفيلم.



السيطرة على الوقت والسيمفونية الخامسة لماهلر:

ففي بداية الفيلم مقابلة مع المايسترو تار أمام الجمهور، تجيب عن سؤال استهزائي حول لا أهمية وجود مايسترو أمام أوركسترا، فتجيب: (من الناحية النظرية، نعم، ولكن عنصر السيطرة على الوقت ليس شيئاً صغيراً، الوقت في الموسيقى شيء مهم، الوقت هو القطعة الضرورية للتفسير. لا يمكن البدء بدوني. هنا المايسترو هو الساعة التي تضبط الوقت، الآن، يدي اليسرى تُشكَّل، لكن يدي اليمنى، اليد الثانية، تُعلِّم الوقت وتحركه للأمام. وعلى خلاف الساعة أحياناً يدي الثانية تتوقف، ما يعني أن الوقت يتوقف. المشاهد مثلك لا يحس بأنني أستجيب للأوركسترا في الوقت الحقيقي… أتخذ القرار حول الوقت المناسب لاستئناف الشيء أو إعادة ضبطه أو حتى التخلص من الوقت وتجميده. الحقيقة هي أنه من البداية ذاتها، أعرف تماماً ما هو الوقت… باللحظة والدقيقة التي سنصل فيها أنت وأنا لوجهتنا سوية).

(الموسيقار ماهلر نموذج لإعطاء المايسترو دوراً في قيادة الأوركسترا، كأنه يقول للعازفين: اتبعوني. لأنه عرف الموسيقى. فهو يلعب بالشكل في أغلب الأحيان، لأنه أراد الأوركسترا أن تبدو شيئاً مهيباً وعظيماً. لذلك نرى ماهلر يعمل إبداعات عظيمة وجذرية، مثل تجاهل سرعة إيقاع الجزء الرئيسي. ورغم جمال جميع سيمفونياته، إلا أن الخامسة منها تعتبر لغزاً، وإذا تريد أن تكتشف سر هذا اللغز، فعليك البحث عن حياة ماهلر مع زوجته "آلما".في قبائل أميركا اللاتينية يأخذون الأغنية، أو المُغني على نفس جانب الروح التي صنعته، وبهذه الطريقة الماضي والحاضر يتلاقيان. إنهما وجهان لنفس العملة المعدنية الكونية). -بتصرف مني: بمعنى عندما تعزف لمدة أكثر من ربع ساعة مقطوعة بطيئة جداً-كأنها الصمت- فإنك هنا تتعامل مع الوقت ككتلة موحدة بين الماضي والحاضر، وعندما تسمع هذا الصمت البطيء، ستشعر بلا شك بالمأساة والتأسي. (والسيمفونية الخامسة لماهلر لم تولد لمأساة الوجع، بل ولدت للحب الصغير، الحب الحقيقي المؤلم فقدانه)!.



ها قد بدأت خيوط الحبكة تنكشف تدريجياً، فبعد (التحكم) في الوقت، جاء سر لغز (الوجع والألم) و(الحب والمتعة) في السيمفونية الخامسة للموسيقار النمساوي غاستوف ماهلر. لذلك، وحتى نتمكن من ربط تطور أحداث الفيلم بالتحكم والسيطرة على الوقت من جانب، ومن جانب ثانٍ علاقة حياة ماهلر وسيمفونيته الخامسة بأحداث الفيلم، نكرر، لنبحث قليلاً عن حياة ماهلر وموسيقاه التي تُجَسِّد-معظمها- فلسفة "الصمت" في الموسيقى، وهل يوجد "صمتٌ" في الموسيقى؟ أم هو الصخب المقابل للصمت؟ كحياة المايسترو تار، حيث تبحث حقاً عن لحظات الصمت والهدوء لتخلق ألحانها ومقطوعاتها، فتنزعج من صخب دقات الساعة الجدارية، أو أصوات ضربات خفيفة على باب شقة جارتها.


علاقة حياة المايسترو تار بالسيمفونية الخامسة لماهلر:

في مقال للأستاذ أثيل حمدان، منشور في موقع "ثقافات"، بعنوان "سيمفونية مالر الخامسة.. بهجة الحب تطرد الكآبة" يقول فيه-بتصرف منا- " نحن غالباً لا ندرك ما وراء الإبداع الخلاق والعبقرية من معاناة حقيقية يعانيها المؤلف أو المؤدي، وربما لو أدركنا ما لا تراه العين لتحولت مشاعر السعادة التي تخلقها الموسيقى إلى مشاعر مليئة بالألم أو الشفقة". هذه الفقرة تعكس "عكس" مسار المايسترو تار، فسيمفونية حياتها بدأت ببهجة الشهرة إلى كآبة الهروب والمنفى. "فالسيمفونية الخامسة للمؤلف النمساوي غوستاف مالر، عمل يرصد التبدلات والمعاناة والسعادة الروحانية في خمس حركات ساحرة. مارس فيها هندسة عاطفية جديدة، نلاحظ فيها التطور العاطفي داخل العمل ككل من المشاعر السلبية إلى الإيجابية. فالقسم الأول ذو الصفة التراجيدية الغاضبة، يحوي داخله الحركتين الأولى والثانية، المليئتين بالمشاعر السلبية الغاضبة. أما الحركة الثالثة السكيرتسو، فهي تشكل بحد ذاتها، القسم الثاني المليء بالبهجة والقلق الجميل، حيث تجتمع فيها السخرية مع الرشاقة والتوتر. بجانب الراحة، فنشعر داخلها بالتطور الإيجابي من الناحية العاطفية. أما القسم الثالث فينقل بشفافية جميلة مشاعر الحب والبهجة النبيلة، متمماً النقلة النوعية بين النقيضين التاريخيين: الحزن والسعادة". وعندما نتأمل تصاعد أحداث الفيلم، وتصاعد (تحكم) تار بكل المحيطين بها بغرور وتحدي (التملك)، وكأنهما خليط من كل المشاعر السلبية الغاضبة في المشاهد الأولى، مروراً ببعض الهدوء والبهجة في الوسط، وانتهاء بالاستسلام و(الطاعة) لأوامر وقناعات وتقنيات (الآخر) في المشاهد الأخيرة وهي تقود فرقة موسيقية صغيرة في إحدى دول شرق آسيا، ملجأ هروبها ونفيها من وطنها. حياتها تماماً تراجيدية الروح السلبية، ونفير المنتصرة، المتحكمة، تماماً كالحركة الأولى من السيمفونية الخامسة لماهلر، حيث تبدأ الحركة "من مادتين بنفير مكثف مرعب، موجه من آلة الترومبيت نحو المستمع ليشد انتباهه كلياً. ثم تأتي المادة الثانية في هذا المارش وتحمل لحناً مرثوياً رقيقاً تؤديه آلات الكمان والتشيلو. ثم يعود المؤلف إلى النفير الموجه وبسرعة مفاجئة تُدخلنا الوتريات في موجة غضب مكثف مع بقاء النفير مسموعاً. ثم تهدأ العاصفة لوهلة، ويعود ماهلر الى النفير مرة أخرى، بواسطة الطبول هذه المرة. ولكن بشكل هادئ. فتبدأ الموسيقى بالتطور السلس، من الهدوء الشديد الى ذروة البكاء الانفجاري، الذي ينتهي بصورة مفاجئة بعودة نفير المارش المُتعَب، إذ تؤديه الأوركسترا كاملة معلنة نهاية هذه الحركة". كما حدثت في حياة تار معلنة نهايتها الفنية!. حيث تنتهي حزينة، تماماً، كالحركة الثانية من السيمفونية الخامسة. "انفجارات الروح تبدأ بلحن مضطرب لسلم حزين يقودنا بهدوء إلى لحن هادئ جميل رثائي النزعة، أرضيته إيقاع المارش الجنائزي للحركة الأولى. ثم يتبعها بانفجار صوتي صاخب ينتهي بفاصل لحني حزين، يبدأ بعده التطور للألحان الرئيسية في لعبة تتناوب فيها ضوضاء الروح الممزقة. بألحان ساحرة تنتهي بإشراقة لروح المؤلف-في الفيلم، المايسترو تار- الذي يذهب قُدماً وبشكل مركز إلى الذروة اللحنية المشرقة. وفجأة، ومن دون سبب معلن، تعود الفوضى الصاخبة ويتبعها انحسار صوتي متدرج في سلم حزين ينهي الحركة الثانية". وأنت تشاهد مشاهد الفيلم تحس بهذا الصخب والفوضى والخوف والألم لدى المحيطين، وكذلك لدى تار.

لقد أشارت المايسترو تار في مقابلتها المتقدم ذكرها في المشهد الأول من الفيلم، بقدرتها في لحظة على "وقف الزمن" أي "الصمت الموسيقي"، وقالت بأن بداية الحركة الأولى للسيمفونية الخامسة لبيتهوفن: ترررم،،،،=صمت،،،، ثم ترررم،،،، فصمت. أي بين كل نفير صمت، هو بمثابة موسيقى. والحركة الرابعة من السيمفونية الخامسة لماهلر واحدة "من أبرز نماذج الموسيقى الحميمية عند ماهلر وربما أكثرها شهرة. فهذه الحركة القريبة من البطيئة: (Adagietto)، المرهفة، تجعلنا نحس بعد الحركة السابقة المازحة بعواطف جياشة وأجواء خيالية خالصة، تخلق موسيقى متناهية النبل، لأن هذه الحركة بروحها العاطفية الإشراقية تصبح مقدمة خيالية للحركة الخامسة. فالآلات الوترية تعزف لحناً طويلاً عالي الشفافية بمرافقة آلة الهارب، التي تصبح بمثابة الأرضية المرافقة. ثم يحرك المؤلف الموسيقى بحيوية أكبر، يعرض من خلالها لحناً "سكون" فيطوره إلى الذروة، ثم يعود الى الوتريات والهارب لتكرر اللحن الأول، الذي ينتهي بشكل هادئ يسدل ستار هذه الحركة". هل هروب تار و(صمتها) و(سكونها) في نهاية عمرها الفني، هو ما تنبأت به تار لحظة تلك المقابلة في المشهد الأول من الفيلم؟.



السيمفونية الخامسة في السينما والتشكيل:

فيلم تار ليس الوحيد الذي أشار واستخدم مقطوعات من السيمفونية الخامسة لماهلر، فقد تركت هذه السيمفونية الأثر الكبير في بعض الأفلام منها فيلم المخرج الإيطالي لوتشيانو فيسكونتي (موت في فينسيا)، وفي فيلم المخرج جورج ميللر (لورينزوس أويل): (Lorenzo’s Oil )، كان لموسيقى الحركة الرابعة دور كبير في تثبيت درامية الأحداث. واستخدم المخرج الألماني سيباستيان ليليو، موسيقى الحركتين الثانية والخامسة، في الفيلم (غلوريا).

في التشكيل:

1908 أنجز الرسام فلاديمير فلاهوفيتش، ترجمة كآبة الروح. وفي العام 1914 جسّدت لوحة الرسام النمساوي أوسكار كوكوشكا، ظهور الحب في الحركة الرابعة.


حياة تار تكشفها خيانة زوجة ماهلر وسيمفونيته العاشرة:

تار تشير في مقابلتها المذكورة في بداية هذا المقال، بأن من أجل أن تعرفوا سر لغز وخبايا السيمفونية الخامسة لماهلر، عليكم البحث عن علاقة ماهلر بزوجته آلما. إنعكاسات ومخاضات ومواجع هذه العلاقة لم تنكشف بكاملها في السيمفونية الخامسة. فمن المعروف بأن ماهلر أنجز فقط تسع سيمفونيات، كانت الأخيرة منها فاضحة بشكل واضح مواجعه وآلامه، وإحساسه باقتراب رحيله، بعدما اكتشف خيانة زوجته. بيد أن بعد وفاته تم تجميع وفحص مسودة مقطوعاته التي لم ينشرها، وقرر معظم المتخصصين في موسيقى ماهلر بأن يحولوا هذه المقطوعات إلى السيمفونية العاشرة لماهلر. ذلك أن أثناء العمل على السيمفونية العاشرة أصيب ماهلر بعدوى دموية، عاد على إثرها من نيويورك إلى منزله في فيينا وتوفي هناك عن عمر ناهز ألـ 50 عاماً. في مقال عميق حول السيمفونية العاشرة لماهلر، منشور في اليوتيوب على موقع (الأرشيف الموسيقي الكلاسيكي)، يقول فيه صاحب الموقع: "عندما توفي ماهلر، كانت الحركة الأولى (اداجيو) مكتملة، أما ما تبقى من السيمفونية فلا يبدو إنه مكتمل ويفتقد إلى شيء حاسم، لذا فقد شكك عديد من الملحنين في إمكانية إكمال ماهلر للعمل. كان أول من حاول عملياً تنقیح مسودات العمل وإخراجها بشكل قابل للعزف، هو عالم الموسيقى الإنجليزي (ديريك كوك) صاحب النسخة الأشهر من السمفونية العاشرة، قدمت نسخته في العام 1966 بقيادة يوجين أورماندو وأوركسترا فيلادلفيا، لكن يظل مفهوم محاولة إكمال سيمفونية ماهلر العاشرة (غير المكتملة) أمراً مثيراً للجدل. الكثير من قادة الأوركسترا رفضوا تقديم هكذا نسخ، واكتفوا بتقديم الحركة الأولى المكتملة من العمل، بما في ذلك قادة مختصون بماهلر. الحقيقة المريحة الأولى هي أن كل الإصدارات التي أخرجوها لهذه السيمفونية تبدو متشابهة. لا توجد أجزاء ضخمة مفقودة يتوجب اختراعها، ولا يوجد أي لبس حول ترتيب الحركات. الاختلافات هي في الغالب في التزامن والتفاصيل. السيمفونية العاشرة، ربما تكون أقوى أعماله وأكثرها خصوصية. إنها نظرة عميقة إلى الفراغ، هي من أجَّلْ سيمفونياته وأجملها".

ولذلك ستجد في هذه السيمفونية سر اللغز الذي لم توضحه السيمفونية الخامسة التي كانت عمود خيمة فيلم تار. ذلك أن ماهلر خلق سيمفونيته الخامسة بعد أو أثناء علاقته بفتاة (آلما) تصغره بـ١٩سنة، وتزوجها، فكان من الطبيعي أن تكون هذه السيمفونية فيها من الحب والسعادة مساوياً الخوف والوجع، لما "قد" يتحقق في المستقبل من مصير هذه العلاقة الزوجية "غير المتكافئة". ولكن سيمفونيته العاشرة التي أنجز منها فقط الحركة الأولى منها، وأُستكملت لاحقاً بعد وفاته. هذه السيمفونية تعكس حقاً مصير علاقته بزوجته بعد أن اكتشف خيانتها، حيث تقف السيمفونية العاشرة لماهلر على شفا اليأس الذي لا شفاء منه، لا شيء يمكن ترمیمه أو إصلاحه. "كتب غوستاف ماهلر العمل في أعقاب الأزمة التي هزت حياته بعد اكتشافه علاقة زوجته آلما بوالتر غروبيوس. مسودة العمل تبرز حالة القلق والاكتئاب التي عاشها غوستاف في أيامه الأخيرة حيال احتمال فقدانه آلما، وكذلك الأذى الذي شعر به جراء خيانتها، الوحدة وانتظار الموت والتخلي هو المزاج الذي كتب فيه العمل، في مسودة الحركة الأولى خط يد ترتعش، تكتب هوامش، وتطلق اللعنات والصرخات : إلهي ..إلهي.. لماذا تركتني وحيداً". أليس كل هذه المشاعر من الصعود العاطفي، ثم هبوطه، وصولاً إلى أن أصبح وحيداً، هي ذاتها ما حدث مع المايسترو تار؟. الحركة الخامسة الخاتمة هي قطعة موسيقية فريدة من نوعها، ونهاية هذه الحركة هي مفتاح السمفونية العاشرة، "وهي أيضا البيان الأكثر حدة وتحطيماً في الموسيقى. بداية هذه الحركة مرعبة بالفعل اثنتا عشرة ضربة خصت بالأسطوانة الكبيرة - ذات طبيعة مكتومة، كتبت لتعزف بصوت عال قدر الإمكان ؛ اثنتا عشرة سكتة دماغية مدمرة تتجاوز في حدتها تلك الضربات التي خصها ماهلر لختام السيمفونية السادسة (ضربات المطرقة). سكتات دماغية تمثل الساعات الأخيرة، كل واحدة أكثر صدمة وحدّة من سابقتها. ولكن بعد هذه المعركة الملحمية، وبعد هذه القصة برمتها لتوديع جميع جوانب الوجود المختلفة، وبعد السكتات الدماغية المروعة الساحقة جسدياً، يعود ماهلر إلى أكثر الطرق الحميمية والشخصية ليقول وداعًا. يقدم الناي لحناً مختلفاً تماماً في معناه وطبيعته عن جميع الأغاني التي سبق أن تضمنتها موسیقی ماهلر - إنها رسالة واضحة جداً: إنها رسالة قبول- قبول المصير بعد تلك الرحلة الهائلة، يعيد ماهلر الوتريات المروعة التي تحاكي بشدة صلاة قبل الموت. أربعة أبواق في انسجام تام، ذروة ساحقة من جانب الأبواق - ولكن كل ذلك برسالة مختلفة تماماً عن رسالة البداية. هبطت الحمامة وجلبت غصن الزيتون/ السلام والوداع".


جنون العظمة وصناعة القوة:

في مقال لحسام الدين السيد من موقع (إضاءات) حول فيلم تار، يحاول فيه تحليل الفيلم من خلال رؤية (نيتشوية). فالمخرج تود فيلد صرح بأن فيلمه يعمل لإبراز مكامن القوة. ولكن "لم يختر تود لإبراز منظور القوة خاصته قصة رجولية عنيفة أو قصة تدور في أروقة السياسة والمال حيث القوة محور الصراع وعنوانه، بل اختار أن تتجلى القوة عبر الموسيقى، وعبر موسيقار عبقري يٌشبه فاغنر، وهي ليديا تار!. في أحد المشاهد يرفض طالب عزف موسيقى «باخ» أو تذوق عالمه لأنه شخصية بطريركية أبوية يصعب أن يتقبلها بصوابية العالم الحديث، تنزعج تار لأن تلميذها يستبعد جمالية الفنان بالكُلية بتقييمه أخلاقياً تبعاً لثقافة إلغاء أو لقواعد لا تنتمي لعالم الموسيقى بالأساس. يحضر جدال الصوابية السياسية وخطرها على الفن في فيلم TAR، كامتداد جمالي لجدال نيتشه الفلسفي ذاته، تنتمي تار بتسلطها وقوتها وشهوانيتها لكل ما دافع عنه نيتشه، قوة الفنان في خلق العالم الذي يُريده وتقديمه للمُتلقين، أخرج نيتشة تلك الجمالية من عالم الفن وطبع بها الوجود بأكمله كقانون للعالم، وأخرجت تار سُلطتها من خشبة المسرح وحكمت بها عالمها الشخصي بكل أفراده. في عالم نيتشة وتار لا وجود للخير والشر إنما قوتها في ما تفعله وقدرتها على فرض انسجامها الشخصي على عالمها من دون أن يفسد إيقاعها نشاز. بينما يحضر مد الصوابية الجديد بقوانينه ليُحاكم الفن ذاته والفنان لقوانين المنطق والخيرية والبراهين التي قوض بها سقراط العقل الغربي في نظر نيتشه".

أعتقد بأن هذا التحليل جانبه الدقة-رغم صوابه في المشاهد الأولى من الفيلم، حيث كانت تار متحكمة ومتنمرة ومتسلطة و"قوية" لدرجة وصولها لمرحلة (جنون العظمة)، بيد أن هذه "القوة" النيتشوية قد تراجعت مع فوضاها وصخبها وترجسيتها، لتنتهي مهزومة في أقصى دولة شرق آسيوية.

70 views0 comments
bottom of page