top of page

              مخرجون يتحدثون عن أفلام بيرغمان

Updated: May 4




ترجمة: أمين صالح              

جيليس ماكينون: برسونا


شاهدت أفلام بيرغمان، للمرّة الأولى، في جمعية الفيلم التابعة لمعهد جلاسغو للفنون. كنت وقتذاك في الثامنة عشرة تقريباً، ولم تسبق لي مشاهدة أفلام في مستواها. ثمة شيء مركّب ومعقّد يتّصل بها. كانت أشبه بروايات لكن في صور. وكانت تتركنا ونحن في حالة تفكير عميق. في معهد الفنون، الأفلام تشاهَد بوصفها نتاجات من الدرجة الثانية. لكن من هناك، من مشاهدة تلك الأفلام، أدركت أنني أرغب في أن أصبح مخرجاً سينمائياً.

ثمة مشهد في فيلم "برسونا" والذي أسرني وأثّر فيّ حقاً. المشهد يصوّر الممرضة (بيبي أندرسون) وهي تنقل رسالة كتبتها الممثلة (ليف أولمان). هي توقف السيارة وتقرأ الرسالة. تكتشف أنها كتبت عنها شيئاً ينمّ عن احتقار. الممرضة تعود إلى البيت. تكسر كأساً ثم تضع الشظايا على عتبة الباب، فيما نرى الممثلة وهي تتنقل حافيةً خارج وداخل البيت. وأنت كمتفرج تعلم أنها سوف تدوس على الزجاج. في المرة الأولى، هذا لا يحدث. في المرّة الثانية تقع في كمين الممرضة التي تهيم بها.

أتذكّر الوجوه في الفيلم، والطريقة التي بها يوظّف بيرغمان اللقطات القريبة والكبيرة، واللقطات الواسعة، وحركة الكاميرا المصاحبة، إضافة إلى الطريقة التي بها يوظّف الصوت. في بعض المشاهد نجده يلغي الصوت. إننا نرى المرأتين والبحر في الخلفية، لكننا لا نسمع صوت البحر.

أشياء كثيرة ومتنوعة تحدث في الفيلم والتي  تنبّهني إلى أن السينما ليست بالضرورة ما عوّدتنا وربّتنا عليه هوليوود، رغم عشقي لأفلام هوليوود.



عندما أنوي تحقيق فيلم، هناك مخرجون معيّنون أحرص على مشاهدة أعمالهم، من بينهم بيرغمان وتاركوفسكي، حتى لو لم تكن ثمة صلة مباشرة بالقصة التي أرغب في سردها.

"برسونا" من الأفلام التي لا أكفّ عن الانغمار فيها بين الحين والآخر. وهو أحد الأفلام التي حرصت على مشاهدتها أثناء تحقيقي لفيلمي Pure. هنالك ذلك المشهد الحلمي في "برسونا"، حيث تدخل الممثلة حجرة الممرضة ليلاً، وهي نائمة. الممثلة تتحرك هنا كما لو كانت شبحاً. في فيلمي، لا توجد أي إشارة إلى هذا المشهد. مع ذلك، فقد واظبت على مشاهدته المرّة تلو الأخرى. إنها محض استجابة عاطفية. إن لهذا علاقة بوضعك في الحالة الذهنية المناسبة للتعامل مع المعضلات في الفيلم الذي تحقّقه.


تيرينس ديفيز

تيرنس ديفيس: صرخات وهمسات

لا استطيع أن أتذكّر متى شاهدت للمرة الأولى "صرخات وهمسات". أظن كان ذلك في التلفزيون. فكرة الفيلم نبعت من حلم: بيرغمان رأى  في حلمه نسوة يتحركن في حجرة حمراء.

بعد أن تموت الأخت، والشقيقتان تلقيان النظرة الأخيرة عليها، نرى ليف أولمان تجلس على طرف السرير. هنا نتفاجأ برؤية يديّ الميتة ترتفعان وتمسّان وجهها. التفسير البيّن هو أن الموتى يمارسون سلطة علينا أقوى من الأحياء. شخصياً، افترض أن للمشهد معنى مجازي. على أية حال، هو مشهد سوريالي ومخيف. اللقطة مصوّرة كما لو أنها واقعية خالصة، الشيء الذي يضفي عليها إحساساً بكونها حقيقية وكابوسية في آن. شخص ميت يحاول أن يتشبث بك.. إنها لحظة استثنائية، خارقة.

الخادمة تلازم المرأة الميّتة، تبقى على مقربة منها، تحتضنها. هي مثل الأرض الأم. بوسعها أن تقبل ذلك. تبدو قادرة على قبول كل شيء برباطة جأش مطلقة. بابتهاج تقريباً. الشقيقتان لا تستطيعان قبول ذلك لأن العلاقة في ما بينهن مشحونة بالتوتر. لا شيء يُقال على نحو صريح ومكشوف، لكن يبدو واضحاً أنها عائلة تعيسة جداً.

بيرغمان هنا يفعل ثلاثة أشياء: يعرض لنا الموت الحقيقي، الذي هو مؤلم جداً وغير مريح على الإطلاق. ثم يعرض غسل الأخت الميتة، وإلباسها ثيابها، بحيث يبدو كل شيء مثالياً، كما لو أنها نائمة فحسب، والموت يصبح محتشماً، لكن ذلك الاحتشام يتبدّد مع، كما يبدو، عودتها إلى الحياة.

إذن هناك وجع الموت، والطريقة التي بها نحاول تجميل الموت لأن من المرعب التفكير فيه مليّاً، ثم عودة الموتى لينتابوا عالمنا ويمارسوا السلطة علينا.

في الواقع، لم أفكر أبداً في الطريقة التي بها يوظّف بيرغمان اللون الأحمر بكثافة. ربما هو لون الدم، الذي هو توكيد على الحياة، لكنه أيضاً يوحي بالاحتجاز والخوف المرَضي من الأماكن المقفلة. ربما هو يحاول أن يقول لنا أن دم الحياة، الخاص بهذه العائلة، هو أيضاً الذي يسبّب الاختلال الوظيفي.

ليس لديّ فكرة واضحة عما يعنيه المجاز، لكنني أقبله.

فقط عندما تجتاز الفيلم بأسره، تدرك مدى قوته وسورياليته. المشهد الختامي يعرض الشقيقات، كلهن مرتديات الملابس البيضاء، ويتنزهن في الحديقة العامة. والمرأة التي ماتت تقول "الأشخاص الذين أكنّ لهم كل الحب والوله، أكثر من أي شخص في العالم كله، هم الآن معي". إنه تصريح فاجع، يسحق القلب. وأنت تفترض أن ما شاهدته كان مجرد فلاش أمامي (يعرض حدثاً مستقبلياً) وليس ارتجاعاً (فلاش باك، يعرض حدثاً وقع في زمن ماض).

في موضع ما، ترى شخصية ليف أولمان وهي تتحسّس بحنان وجه الخادمة، رغم أنها قرّرت لتوها التخلص منها. عندئذ تدرك طبيعة هذه الشخصية المتوحشة: تبدو مُحِبة وحنونة ولطيفة، لكن في الباطن هي مخيفة، قاسية، تتلاعب بالمشاعر. ربما هذا هو ما يتحدث عنه الفيلم.

أنا لا اعتبر بيرغمان مخرجاً متديّناً، لكن هذا لا يمنعه من أن يكون روحياً وإنسانياً.

عندما كنت طفلاً، بين الخامسة والسابعة من العمر، توفى والدي في البيت نتيجة إصابته بالسرطان. ظل لعامين وهو يحتضر. لذلك كنت أراقب شخصاً وهو يتألم بشدّة. وهذا مارس تأثيراً عميقاً عليّ. هو لم يدفع مقابل التأمين، لذا لم تحصل أمي على أي إعانة. وكان عليّ أن أنام على السرير الذي شهد موت أبي. وكان هذا صادماً جداً لطفل في السابعة من عمره. المشهد في "صرخات وهمسات" أوقظ ثانيةً ذلك الرعب. 



توماس فينتربرغ: فاني وألكسندر

في فيلمي Festen سرقت من بيرغمان. بإمكاني أن اعترف بذلك. في أحد المشاهد، نرى الشخصيات ترقص، متشابكة الأيدي، حول المنزل، وهذا ما فعله بيرغمان في فيلمه "فاني وألكسندر". لكن هذا أيضاً ما فعله من قبل فيسكونتي في فيلمه "الفهد". هذا يعني أن بيرغمان أيضاً سرق من آخر.

أحب "فاني وألكسندر" كثيراً. إنه عن طفولتي. وهذا ما يستمر الآخرون في قوله عن فيلمي Festen. يعتقدون أنه بورتريه لحياتهم الخاصة. مع "فاني وألكسندر" ينتابني الشعور – خصوصاً من مشهد الرقص – أنه فيلم عن نشوئي في مجتمع صغير داخل كوبنهاغن. الهيبيون وهم يتراكضون في مجموعات حول المنازل في فترة الاحتفالات بالكريسماس. كان الاحتفال نفسه، والطقوس نفسها.

"فاني وألكسندر" هو واحد من أكثر أفلام بيرغمان وجدانية، وأقلها ترابطاً منطقياً. قد لا يُعد تحفةً فنية، لكن كان له تأثير هائل عليّ من الناحية العاطفية. قد تعتبره من أسوأ أفلامه، فهو مصنوع للتلفزيون، وهو عاطفي على نحو مفرط، وهو مزيج من الأنواع السينمائية، وقد يفتقر إلى القوة المقنعة، غير أني أحب هذا الفيلم الذي أسرني واستحوذ عليّ.



المصدر:

Sight and Sound, January 2003   

29 views0 comments
bottom of page