top of page

محنة كونديرا التي لا تحتمل

Updated: Jul 30, 2023



مغادرة كونديرا تعني ذهابنا لروحه المتشفف صداها في ذاكرتنا طيلة عناقنا لتباريح حروفه، يكاتبنا بهدوء من سيموت ويودعنا محنته التي لا تحتمل بخفة الكائنات من حوله، مبعث فقدنا له، لا يتجلى بانقطاع كتابته المبهرة عنا، بل بتلقينا وميض قلبه كل كتابة منحنا إياها، شبه ذخيرة أخيرة لنقوى.


2


" نعم، إن رواية اليوم تمتحن الشرك الذي استحال العالم إليه."

" ها أندا أعلن عن اهتمامي الكبير بتاريخ الرواية، في الوقت الذي تتنفس رواياتي كلها الكراهية للتاريخ، لتلك القوة العدوانية، اللاإنسانية، التي تقتحم حياتنا من الخارج، دون دعوة، لتقوم بتدميرها. مع ذلك، فتصرفي المزدوج هذا لا يفتقر إلى الاتساق، لأن التاريخ البشري وتاريخ الرواية شيئان مختلفان تماماً، الأول لا يتحدد وفق إرادة الإنسان، بل هو يقوم بالاستيلاء على مصيره كقوة أجنبية، لا يستطيع التحكم بها، بينما نجد تاريخ الرواية (أو تاريخ الرسم والموسيقى) ثمرة حريته، معنى الفن يتعارض تماماً مع التاريخ نفسه، وذلك بسبب طبيعته الشخصية، تاريخ الفن هو انتقام الإنسان ضد الطبيعة اللا شخصية للتاريخ البشري."


3


أن تهزم، أن تقوى وأنت تقرأ "ميلان كونديرا"، لكونه لم يحتمل خفة الكائنات من حوله، فتحول إلى كتابة تستدعي مناعة القارئ لتلاحقه بالهزائم، لتكتشف معه مدى الغموض والسخرية التي تغلف اللغم الذي استحال له العالم كل عنف

ميلان كونديرا، أحد الكتاب التشيكيين الذي لم يحتملوا وهم يكتبون ليل الورق احتلال الدبابات الروسية ذات غزو عنيف، لطراوة أجساد فتية تعني لهم الكثير، لم يحتمل ربيع براغ، ومشاهد تطوح أشلاء ودماء طلاب علم تتوازع الساحات، لم يحتملهم وهم يعلنون شهيقهم الأعلى من قامات القذائف. لم يحتمل صمت الجثث التي تغطي الساحات، لذا راح يحلم كل حبر بيأس لا يقل قسوة عما يراه ويدعونا لنحاول الاحتمال

ببساطة، أتاح لنا وقتاً للهزيمة. لنعرفه ونمضي لانسلاخ محتوم، لصيرورة الصمت القاتل كل جرم، كل ورقة تعلو وتهبط، وهو يحاور العقل ليتخطاه، يقطف بذرة المخيلة ليقصيها عن عاديات التخيل

كونديرا.. كائن آخر، يستفز تاريخنا الإنساني، معلناً قدرته على اختبار مناعتنا عنه. كما قال في حديث بعيد:

"من المؤكد أن حكم التاريخ حكم غير عادل، وربما يكون حتى حكماً غبياً. إن القول بأن التاريخ سيحاكمنا- والذي هو قول مألوف وعادي- يعني بأنك وبشكل آلي تفهم التاريخ على انه الأساس المنطقي للأشياء، وله الحق في إصدار الحكم، وله الحق في إحقاق الحق، إن هذا الفهم تجده عند الأمم الكبيرة التي عبر صنعها للتاريخ، تنظر إليه دائماً على انه حكم وإيجابي، لو أنك أمة صغيرة فأنت لا تصنع التاريخ. فأنت دائماً موضوع التاريخ، التاريخ شيء عدائي، شيء لا ينبغي عليك أن تدافع عن نفسك تجاهه. فأنت تشعر عفوياً بأن التاريخ غير عادل."

منذ صرخته الأولى في روايته "المزحة" “الحياة في مكان آخر “و"خفة الكائن التي لا تحتمل" وما تلاها، لم يزل بترصدنا ببداءة كاتب شغوف بالانهيار، انهيار الزائف والمتكلس من ذرائع الاتصال بالآخر والعالم

ليسأل ذات كتابة:" ماهي الاحتمالات في عالم تحول إلى شرك لنا، لقد تحدى كافكا أكثر الأفكار قبولاً في المجتمع، وهذا هو بالتحديد واجب الروائيين: أن يتحدوا باستمرار الأفكار الرئيسية التي بني عليها وجودنا المحض"


كونديرا كاتب شغوف بترجمة الذات، يتحصن بآليات الإبداع التي تكتشفها خفايا الروح، لذا تأتي كتابته بمتعة الاكتشاف، وترسل مراهنة لا بد منها لتلهي القارئ، رغماً عن خيانة الترجمة، نتصل بكتابته ونعيد تكثيف أعماقنا لتتشظى على يديه، وهو يوحي لنا باحتدام إرسالنا ببطء إلى مبتغاه: حنين الهاوية

قد لا نعترف بضعفنا آن القراءة، ولكن ما أن تغادرنا كلماته حتى نجزم بقدرته علينا، لما نراه من حوار مؤجل، حالات لا تنسى، تعرية لخفايا الذات ومكبوتات تتسربل بها كائنات تلهو بنا لتنال منا، جسارة تلغي جسورنا نحوه، لنتهدم على مهل

"خيانة الوصايا" كتاب وفي لبوح كونديرا كله، فيما يتعلق بمشافهة الإبداع، تقرير يتلو حرصه على مداهمة الموهبة، تفتيتها، لكز آخرها، جرأة لا تنتهي وهو يعلن كل ورقة بأسرار تتلوها الذاكرة، هذا الكتاب نهل معرفي لمن أراد أن يعرف مبتغى كونديرا الجهنمي، اعتراف حرفي بسيرته العصية على الكتمان. باختصار أجمل المحترفات والمختبرات لمشافهة سحر الإبداع

منذ العسف الاشتراكي وسواقي الشمولية الفكرية والتأليه العقائدي لآليات العنف الحديدي، كانت الذاكرة الثقافية تمضي دون أن تكترث بأن ثمة كائن وحيد مثله يكتب وكائنات معزولة ترصد عزلتها لتكتشف كم كانت تجهل كاتباً وحيداً يتردم بين اعتقال وآخر، جسد منذور لنبذ فكري ونفي جسدي صادر من مراكز الإلغاء الحزبي المهيمن آنذاك، هكذا كان يجترح عنف مصابه:

" من القسوة أن أخسر فجأة الجمهور الذي اعتدت عليه حتى سنين الأربعين

لكنني لم أكن وحيداً، كانت تجربة فاتنة لأن تعاش، كل ما حدث كان مثيراً حتى الحزن

لقد تم الحظر على كتبي."

هكذا كونديرا يقود الطواحين بقدرة القمح لا بخشب المهرجين


40 views0 comments
bottom of page