top of page

اللحمُ والرمل



الشاعرة والكاتبة الباكستانية الأفغانية المولد فاطمة بوتو


بقلم: فاطمة بوتو


لستُ في حلم، أنا يقظة تماما.


أقفُ في مدخل فوندازيون برادا في ميلان، أُمسك بقصاصة من الورق في يدي. وضعتُ حقيبتي وتلفوني وأقلامي جانبا، قصاصة الورق هي الشيء الوحيد معي. تحمل توقيعي، حيث أكدتُ بأنني في كامل حضوري الذهني والجسماني، وبأنني مُدركة أن بعض الصور التي سأشاهدها قد تكون مزعجة، وبأنني على استعداد لتحمل المخاطرة. لا أحد دون سن السادسة عشرة مسموح له أن يختبر المعرض المركب للواقع الافتراضي Carne y Arena - "اللحم والرمل" ل أليخاندرو ج. إناريتو. أضع توقيعي على التنازل، وأقطع الوعود بالحروف الأولى والأخيرة من أسمي.


قام إناريتو بتصميم المحاكاة كأمر يُختبر على حدة. كل زائر عليه الدخول والعبور من خلال المناظر الطبيعية التي أرساها المخرج للحدود الأمريكية – المكسيكية، لوحده، بعجزه و بدون حماية. من البداية وحتى النهاية، تستغرق التجربة عشرون دقيقة. أُمسك بالورقة التي تحمل توقيعي والوعود التي قطعتها مطوية بين يدي وأنتظر في شمس أكتوبر أن يأتي دوري. أنا لست خائفة.


( 2 )


الواقع الإفتراضي ينبنى في مكان ما بين حدود الحقيقي والمُتخيل، بين ما هو صادق وما هو زائف. بإستخدام صور ثلاثية الأبعاد، يمكن الآن وأنت جالس في منزلك، أن يتم نقلك عبر حدود الزمن، المسافة والفضاء. واقف في غرفة المعيشة، تستطيع أن تمشي في ردهات الرخام الأبيض العاجي لتاج محل، أو القفز بمظلة من على منحدر، أو أن تحارب بمحاذاة جنود متعبين في حرب أهلية. بالمعدل الذي تتطور فيه التكنولوجيا بشكل جذري، ستدفعنا أن نتسائل أكثر وأكثر عن ماهو حقيقي وما هو مجرد حلم. المتفائلون مثل كريس ميلك، الذي يدير استوديو متخصص في الواقع الإفتراضي يُدعى "هنا يتواجد التنين"، يقول بأن هذه التكنولوجيا ستكون "آلة التعاطف المطلقة" التي ستربط الناس بعضهم البعض بشكل أكثر عمقا. على حين يتسائل القلقون كيف سنستطيع تنظيم هذا الأمر، وكيف سنحمي أنفسنا، وما هي النُظم المجتمعية التي نستطيع التمسك بها في هذا العالم الغير واقعي. حين يعتقد الناس انهم يحلمون، فإنهم يقومون بأمور خرقاء – العنف، الحياة، الحب، الكثير من الأشياء تصبح سهلة ورخيصة.


فيسبوك، قوقل، سامسونج وسوني، كلهم قد صنعوا أجهزة السمع الخاصة بهم للواقع الإفتراضي. بالكاميرات والبرمجيات المناسبة، يستطيع أي كان أن يخلق محتوى متعدد الأبعاد. أوكولوس ريفت، التكنولوجيا المستخدمة في معرض Carne y Arena قد وُلدت لتعزّز ألعاب الفيديو. لكن الواقع الإفتراضي قد رحل خارج عالم الأولاد المراهقين. فلديه الإمكانية لتغيير الطريقة التي نشاهد بها الأفلام، طريقة سفرنا، الطريقة التي نخوض فيها الحروب، والطريقة التي من خلالها نكتشف، نتوجع، ونتداوى.



لقد بدأ مستشفى سيدارز سايناي في لوس أنجلوس إستخدام تقنية الواقع الإفتراضي ك "صيدلية"، تقول صوفي هاكفورد - وهي من فئة المستقبليين في لندن - إنه من خلال هذه التقنية يتم نقل المرضى الى بيئة من الإسترخاء والهدوء قبل إجراء العمليات المعقدة. بسماعات الأذن، وبضربة زر يتم نقل مرضى الحروق الذين يعانون من آلآم مبرحة، الى أماكن باردة بإستخدام المخيلة. الصور الإفتراضية للثلج والجليد، قد تبين إنها قادرة أن تحررهم من الحدود المادية لأجسامهم المترعة بالألم بنسبة 60 في المائة وبفعالية أكثر من المورفين. أن عالم الواقع الإفتراضي من التطور بحيث أن لديه القدرة أن يخدع العقل لأن يصدق بأن ما يشاهده حقيقي – على الرغم من معرفتنا فكريا وعاطفيا – بأننا مجرد متفرجين في عرض جميل ومُتقن.


( 3 )


أدخل في غرفة مظلمة و يقال لي أن أقرأ رسالة إناريتو الترحيبية وأن أتبع التعليمات خلال تحركي عبر مستودع مظلم. لا يوجد أي خارطة للمعرض، لا دليل يوحي بأن الواقع سيتلاشى ليحل مكانه الإفتراضي. لا أتذكر إذا كان هناك صمت أم موسيقى، لأنني فجأة أدرك بأنني وحيدة في المكان. أسير بإتجاه الباب وأفتحه. بمحاذاة الجدران وُضعت مقاعد من الحديد. الغرفة بيضاء، تنيرها مصابيح الهالوجين الساطعة. في كل مكان على الأرض – تحت المقاعد، في الزوايا، توجد كومات صغيرة – من الأحذية. هناك صنادل رجالية، ترك الغبار علاماته على وساداتها الناعمة حيث ضغطت اصابع القدمين على الجلد، أحذية مسطحة لا باطن لها، أحذية نسائية مكسورة الكعب، حذاء طفل مطاطي.


  1. إنزعي جواربك مع الحذاء. 2. ضعيهم في الخزانة. 3. أجلسي وأنتظري المنبه، حين يرن أدخلي من الباب. التعليمات مكتوبة بالأحمر فوق الجدران.

أتردد لكني لا أتبع التعليمات. أسير بمحاذاة المقاعد وأنحني لأتطلع الى الأحذية. تمر لحظة قبل أن انتبه الى الصمت، وحين أفعل يبدو الصمت حادا، مثل صفارة الكلاب، ومرعبا. ولكن بمجرد أن أعتاد عليه، فوقي، تحتي، من حولي، يأتي ضجيج هادر، مثل قطار مسرع فوق رأسي، وأشعر الغرفة كلها وكأنها تهتز.


تسمى هذه الغرفة la hielera صندوق الثلج. حين يتم القبض عليك في هجرتك عبر الصحراء بين المكسيك وأمريكا، تضعك شرطة الحدود في زنزانة باردة متجمدة من الخرسانة. تبعا لطلب في قانون حرية المعلومات تقدم به مجلس الهجرة الأمريكي عام 2015، يوضع معظم المهاجرين في هذه الزنازن سيئة السمعة ليومين في المتوسط.


على الجدار، بين التعليمات التي ما زلت أتجاهلها وأنا أنتظر المنبه أن يرن – الذي لا يرن، لماذا لا يرن؟ - مخطوطة على الجدار تخبرني أن هذه الأحذية هي ما تركها ورائهم اولئك الذين ماتوا في محاولتهم عبور الحدود الى داخل الولايات المتحدة. ستة آلاف شخص قد ماتوا على مدى سبع سنوات. الضجيج يعود مرة أخرى. ينقبض جسمي كله وانا أنتظر أن يختفي. ربما علي أن أخلع حذائي، ربما لن يرن المنبه حتى أفعل هذا – لماذا لم يرن حتى الآن؟- وبمرور ثوانٍ معدودة، بمدى عبور صراخ القطار، أفكر: أود أن أترك هذا المكان.


أخلع حذائي وأضعه في الخزانة. لا أدري كم من الوقت قد بقيت في صندوق الثلج، لكنني الآن أشعر بالبرد. سيقولون لي بعدها بأنها كانت مجرد دقيقتين. أجلس على المقعد الحديدي وأرفع رجليّ على الحافة لأريح قدميّ. أحضنُ ركبتيّ الى صدري، كما كنت أفعل في المدرسة حين لا أود اللعب. لا يوجد ساعة. ليس لدي هاتف. ما زلت أحمل ورقة التنازل في كف يدي. أرقب المنبه. لا يرن.



( 4 )


ولدتُ في كابول، أفغانستان. والدتي أفغانية لكن والدي باكستاني. نزوحي هو نزوح والدي، وعلى الرغم من أن هذا النزوح كان مُريحا، وبالرغم من طاولات الطعام والكتب التي تم استعارتها من المكتبات والمدرسة، كان – مثل أي تجربة في النزوح – تولّد من تاريخ مليء بالعنف والأسى.


قبل ولادتي بثلاث سنوات، جدي، والد والدي، أول رئيس منتخب ديمقراطيا في باكستان، قد تم الإطاحة به وقتله. ثلاث سنوات بعد ولادتي، أخ والدي الأصغر تم إغتياله. أبي، مير مرتضى، كان منفيا وارتحل من وطنه باكستان الى كابول، وبعد أن ولدتُ، حين تفجرت الحرب في أفغانستان، أرتحلنا الى دمشق في سوريا. أن أية حالة من السلام استطعنا أن نبنيها كعائلة ازدهرت في ظلال ذلك العنف، وعشنا أيامنا مع معرفة أن تلك الملاحقة ليست بعيدة عنا، مهما عبرنا من حدود ومسافات. وبأن سعادتنا ببعضنا قد تنتهي، مثل تلك الحيوات التي خلفناها وراءنا، بوحشية وبدون سابق إنذار.


فاطمة بوتو بمعية والدها مير مرتضى

كنت في الرابعة عشرة حين تم إغتيال والدي أمام منزلنا. كان عضوا في البرلمان وناقدا للفساد والعنف. أكثر من مائة من منتسبي الشرطة أصطفوا على طول الطرقات المحيطة بمنزلنا تلك الليلة، قطعوا الإنارة في الشوارع وانتظروا على الأرصفة في الظلام، بعضهم في مواضع القناصة على أشجار البانيان القريبة، في إنتظار عودة والدي الى المنزل. تم رميه بالرصاص عدة مرات وتركوه ينزف في الشارع. كنا نستطيع سماع كل شيء بالداخل، كنا على مبعدة خطوات، لكن تم منعنا من العبور خارج البوابة.


كان أبي قد عاد لتوه الى موطنه بعد ما يقارب العشرين عاما في المنفى. كان من المفترض أن يكون هذا الرجوع حدثا سعيدا، لكن ما واجهناه في موطننا، بعد سنوات من الغربة في أراض أخرى، كان الحزن. كطفلة وكفتاة قيل لي بأن على المرء أن يتحلى بالشجاعة تجاه هذا الإحساس المستمر والدائم لحالة الإنفصال والعنف. لكن الآن سلامتي من هذه المعرفة الخطيرة تأتي بشكل جزئي من مصدر آخر – المعرفة بأن كل هذا لم يكن حقيقيا.


الفرق بين الثقافات الشرقية والغربية هو maya : النسيج الكاذب.


في الشرق، نؤمن بأن الحياة كلها maya عبارة عن وهم. وبطبيعة الأمر، نشك في الزمن، لا نؤمن في الفضاء والمسافة، وإحساسنا بكل شيء ينضوي على هذه المعرفة – لا شيء حقيقي. لا الحياة، لا القوانين، لا الأوامر، لا شيء. بين الحلم والواقع، لا يوجد لدينا حدود، كلاهما يتلاحم ببعضه. الكذب والحقيقة واحد. كل شيء هو وهم قد خلقه العقل.


في الغرب، الحياة موجودة ضمن شروط واضحة. هذا صالح، وذاك سيء. هذه الجنة، وتلك هي النار. هذا حقيقي، وذلك زائف. في المكان الذي يشكل أحلامنا، يوجد لديكم حقيقة خالصة متكاملة.


في مستقبل يَعدُ بأنه سيصاغ بالواقع الإفتراضي، من منا سيكون أكثر ارتياحا في الحلم؟




( 5 )


تحت قدمي يوجد حصى بارد. رمل. أمشي حافية، أدوس برفق على الأرضية الخشنة الباردة. "جسدك لا يكذب أبدا"، قال إناريتو في مقابلة بعد العرض الأول ل Carne y Arena في مهرجان كان. لهذا علينا أن نمشي بدون أحذية، اللحم في الرمل، لهذا نذهب على حدة الى داخل الغرف المظلمة في هذا المعرض.


تتحدث معي فتاتان بالانجليزية وبلكنة إيطالية ثقيلة. واحدة تضع حقيبة فوق ظهري، على حين تخفض الأخرى جهاز السماعة أوكيلوس فوق عينيّ. كوني فضولية، تقول الفتاة ذات النظارات الواقية، تطلعي حولكِ، لكن لا تهربي.


لماذا أهرب؟ أفكر، لكن لا أسأل.


سيكونون هنا، تقول الفتاتان، للتأكد بأنني لن أهرب ( لماذا سأهرب!) ولسحبي من الحقيبة فيما اذا اقتربت أكثر من اللازم من الجدران. كوني فضولية، تجولي في المكان، تُردد. شخص ما يضع سماعات الرأس عليّ، وحين تطرف عيني، يتحول ما حولي من الظلمة الى نور الصحراء الأزرق البارد، رقيق مثل ألوان مصباح الكيروسين. أستدير ببطء، قدمي تتأرجح على الحصى – أستطيع أن أسمعه – وعلى الرغم من أن السماء خلفي ما تزال مظلمة ومكسورة، لون الحبر، أستطيع أن أتبين ظلال أشجار يشوع.


وبعدها، أسمع أصوات أناس.


هناك رجل، أحد المهربين، يتحدث بالهاتف، يمشي بإتجاهي وأتجمد. هل يتحدث معي؟


رجل واحد يصبح إثنين وثلاثة وأكثر والنور ينتشر في الأفق والناس يصبحون قريبين، قريبون لدرجة إنني أتبين امرأة، في منتصف العمر ذات بنية ثقيلة. هي لا تتنفس بشكل جيد وبحاجة الى المساعدة في المشي. أتحرك لأساعدها – ذهني يعلم لكنه لا يعلم بأن هذا مجرد وهم – مايا – لكن قبل أن أفعل، أشعر ببرودة وأتنحى جانبا، وأنتبه أن لا تخترقني في مشيها نحوي. لا ألمسها. لو فعلت لرأيت قلبها – أحمر نابضا – دقاته في جميع جسدها. أن أي اتصال مع المهاجرين في هذا التصوير يطلق نبضات قلوبهم، في تذكير لنا نحن المشاهدين بأنه في مكان ما، هؤلاء الأشخاص حقيقيون. أكتشف هذا فيما بعد، كما أكتشف بأنه لا أحد من هؤلاء، من هذه الأوهام، هم من الممثلين. هم أناس حقيقيون. إناريتوا قام بعمل مقابلات لمهاجرين من جواتيمالا، السلفادور، والمكسيك وطلب منهم المساهمة في هذا التصميم الفنيّ. جميعا أعادوا تمثيل رحلاتهم الحقيقية، عايشوا الخطر مرة أخرى، ولبسوا حتى نفس الثياب التي أرتدوها حين ساروا عبر الصحراء للدخول الى أريزونا.


أمشي في خطوات صغيرة (جزئيا لأنه ماذا تفعل تلك الفتاتان غير مراقبتي؟ أنا مُراقبة مثل ما أَرقب بدوري الآخرين، حلم في داخل حلم في داخل حلم. لست خائفة).


هناك زهور بيضاء في أحراش الصحراء، مثل أزهار الكاميليا، وأكاد أنحني لأقطف إحداها. كيس أزرق بلاستيكي يتطاير على مبعدة ولثانية أتمنى أن لا أكون أنا من رمته. طيور تنسل عبر السماء، وأناس يسيرون من حولي، ببطء، بتثاقل، يسحبون أقدامهم.


بعدها يأتي إحساس ضربات الهيلكوبتر في السماء وجسمي يتحرك تلقائيا لإيجاد ملاذ. حين أنظر الى قدميّ أرى التراب يتناثر في الهواء مدفوعا بحركة شفرات أجنحة الهليكوبتر. أستطيع أن أستشعر نبضات الشفرات في طبلة أذني. أستطيع أن أرى وجه المرأة المتوسطة العمر وصولا الى أخاديد جبينها. أسمها لينا. أعرف هذا لاحقا، في الثالثة والخمسين وعبرت الحدود بعد رحلة طويلة من جواتيمالا، والخوف المحفور في وجهها مرآة لخوفي.


أستطيع أن أسمع بكاء طفل، هو بجانبي، قريب مني، من لا مكان تخرج سيارتان جيب لحرس الحدود. هناك كلب ينبح ويبصق، ورجل يوجه بندقية الى وجهي.


لقد وُجهت البنادق نحوي من قبل، في الواقع. كنت في تضاريس بعيدة عن كل هذا، مع الغبار والوسخ وفتيان يصرخون ببنادق مرفوعة والتهديد بالعنف يتدفق بيننا وفي هذه اللحظة. لا أستطيع أن أفصل تلك الذكريات عن ما يحدث الآن. كما أسمع بكاء الطفل، أستطيع أن أشعر بنبضات قلبي، أسمعها كقرع الطبول على جسدي، وعلى كل شيء أعرفه:


هذا أكتوبر


أنا في ميلان – في برادا


أمسك بورقتيّ التنازل في يدي،


ألبس فستانا صيفيا لأن شمس هذا الصباح


رغم لطافتها كانت أشعتها ثابتة،


حذائي في خزانة،


أن يكون بمقدوري أن أتنحى عن البندقية وأهرب،


حتى وأن وعدتُ أن لا أفعل هذا، مباشرة الى الجدار


أن واحدة من الفتاتين الإيطاليتين على الأرجح ستحميني من الإصطدام بالجدار،


(آمل هذا)


أن هذا التصميم الفنيّ/التجربة/السرد الذي


أنا فيه مجرد 6.5 دقيقة، أن هناك أناس قد دخلوا قبلي


وآخرون سيأتون بعدي، وأنه سينتهي


في يناير


أنا لا أعيش هنا، أستطيع أن أترك وأذهب الى أي مكان –


الى أي مكان في العالم – كل هذا يتلاشى


أستشعر قلبي يتسارع، ينبض خلف جدران صدري.



0 views0 comments
bottom of page