top of page

باب عمانويل



الباب،مغاير، جادٌّ، لم يتراخَ يوماً في بعث الدهشة، عرف كأعجوبة عمانويل العراقي، المهووس بالدِّقة، مسحه بالزَّيت، قوَّى أركانَهُ، مُهذِّباً تفاصيلَهُ بالكحت والرِّعاية، اختار خشب ابنتِهِ المُفضَّل، مُدركاً أنه سيُعجبها، ويفتنها زهواً بعملِهِ..

الباب، أخبرَهُ صاحبُهُ عن أشياء تُحبُّها وحيدتُهُ، عن عشقِها لشجرة البلوط التي يأتي منها وحلواها "مَن السما"، حكى عن زواجها بغريبٍ، تلتها سنواتُ قطيعةٍ صقيعيةٍ سكنته، وعن بشارة اتصالها منذ أشهرٍ برغبةٍ صادقةٍ في الصُّلح.

الباب،روى عمانويل أنها خلعت ملَّتها ورحلت، فما عاد يصنعُ أبواباً للحُسيْنيات والمساجد واقتصر على الكنائس الغنية -ليس ضدَّ أحدٍ وإنّما من تداعيات الجُرح الغائر- و البيوت الثَّرية، لمن يستطيعُ تحمُّل ثمن تُحَفِهِ.

الباب، لم يشأ في وحدته الكحلاء إفلات عمانويل في المنجرة، حين تمايل ليستند إليه، جذب روحه لتنضوي في جوفِهِ الخشبيِّ. آنذاك قابل صانعهُ الإشاعة التي أتت مع شجرة الباب، بوجهها القبيح.

الباب،في المخزن مسحوا الغبار عن وجهه فاعتراه الفضول، ظنَّ أنهم نسوه، حملوه بتؤده، تأفَّفَ العمالُ من ثقلهما، وتنادوا بالحسين، وصلا إلى منزل السيد عبد الرؤوف، عرف عمانويل صديقه، فرح كثيراً وهو يسمعُه يتأسى على فقدانِهِ وإعجابِهِ واهتمامِه بالبابِ، مُصدراً الأوامر للعمال بتنظيفه، مشيرا لابنه عن واسطةٍ عظيمةٍ دفعته لتولي إجراءاتِ النقل للوجه النهائية، السيد الذي بعد أسابيع تذكر الباب،ما أن أخبروه عن صواريخَ غريبةٍ دكّت منزلَهُ.

الباب، وصلا إلى الميناء، في أجواء تُعكِّرها تهديداتٌ متبادلةٌ، بشأن سلامة مياه خليج تمخر أمواجُ الشكِّ فيه، جعلت إمكانيةَ شحنِهِ عن طريق سفينةٍ محليةٍ أمراً محفوفاً بالمخاطر، دبّر القبطانُ الأمرَ بعد أن سبَّ الباب، الذي لولا أنه انتظرَهُ ما انهالت التعليماتُ الرسميةُ بعدم الإبحار فخسر كثيراً، تضرَّع للعذراء بتسهيل الأوضاع، هدأت الطنطنات السياسية قليلاً. في أجواء مرعبة وبراية دولية دفع ثمنَها باهظاً، وصلت السفينةُ في آخر رحلةٍ للقبطانِ، إثر مقتلِهِ بالخطأ في عراكٍ تافهٍ ما إنْ لامست قدمُهُ الميناء.

الباب، استبدلت الخُطب الدينية التي لم يهدأ شيخُهُا عن الوعيد والتهديد شريط القرآن، و ظلَّت تقفز الأعطالُ في جسد الشَّاحنة رغم المسافة القصيرة، و تتسع حفر الطريق لعجلاتها فتتوقف، بات سائقُ الشاحنة العنيدُ لا ينفكُّ عن الحوقلة والاستغفار، أدى مهمته أخيراً في إيصال الباب، انطلق مسافرًا بشاحنتِهِ الصَّغيرة، بعد تجاوزه الحدود بساعة، دون أن يتسنّ له عدُّ حزمةِ نقودِهِ مجددًا تم اختطافه.

الباب، الذي لم يثق كثيراً بتغيُّر المسارات، إذ شعَّ بيت الابنة بتفرُّدِهِ به عن البيوت الأخرى، لتعضّه الغيرة لاحقاً، فبات يناكفُهُ يومياً ساخراً واصماً إياه بالأخرس، والشجرة اللطيفة المُطلة عليهم من السور، صدَّعته بإلحاحها السّافر حول نسبتِهِ لشجر العرعر أو الصنوبر، لتتجاهله ما إنْ أدركت عدم ارتباطِهِ بالصَّحراء.

الباب، لم يهتم مثل عمانويل لاجتثاثِ الشَّجرة، ولا لخرائب وترميمات البيت المستمرة والمكلفة، ولا لكسر مضاعف أصاب قدم الجارة، التي كانت تركل الباب بحسدٍ، لكنه تضايق جداً معه لخبر السيد عبدالرؤوف وارتجف مذعوراً لوفاة زوج الابنة -الذي لم يحب التحفة -بحادثٍ مروريٍّ مُروّعٍ.

الباب، سارحاً عمانويل في ليل هاديء،مستذكراً حين قوّم المزيد من أضلاع تحفته فناداه: لا تكمل، إني قد مسَّني الضُّر. راويّا له لحظة تدلي عنق قاتلٍ دموي،مشنوقاً من أحد الفصائل المتطرفة على غصن شجرته، و رصاصات غلٍّ ناقمةٍ انفجرت معاركها النتنة بقربه، دائرة مُحكمة صنعت نحس الباب حين دُفن القتلى تحت جذوعه وسرى فيها دمٌ عفن لآخرين. كانا ساهميْن لا يُسعدهما إلّا إذا لامستهما يدُ الابنة الحبيبة أو الحفيدة الحنونة فتخفت دوائرُ الخوف والغضب والكراهية، الحفيدة الطيبة التي في آخر يومِ عزاء، لم تهدأ إلّا بعد أن سكبت رائحة نفّاذة لتتبعها بشعلةِ نارٍ التهمتهما معاً بلا ألمٍ.


45 views0 comments
bottom of page