top of page

ساعة بعد عام



ھل جربت یوما الخروج من رأسك، والدخول في رأس شخص آخر؟؟ ذلك ما حصل عندما قطعت عزلتي البائسة، و قررت الظھور للحیاة ،بعد عام كامل من غیر رؤیة أحد.. طقوس الصباح المعتادة ، سیجارة أفتتح بھا یومي ، وخمس دقائق تحت الماء البارد أنعش بھا بدني ، و أوقظ ما بقي منھ نائما.. لم تكن عندي وجھة محددة للخروج، سوى الخروج نفسھ . كنت تائھا في الشوارع ، تحویلات ومحلات، لافتات عبأت ماكان برا ، و عربات طعام فرضت نفسھا بشكل عشوائي على كل رصیف . أیعقل ان المدینة بدلت جلدتھا في ھذا الوقت القصیر؟؟ أم أني متأخر جدا عن الحیاة ؟؟ أوصلتني رجلي الى المقھى القدیم ، الذي یجلس شامخا في قلب المدینة . نفس المقھى الذي التقینا بھ قبل عشر سنین. أتذكرین ؟؟ بحذر شدید، دخلت بخطوات مترددة، كان المحل مكتظ بخلیط من الناس ھنا وھناك ، لم یتركوا لي مكانا سوى طاولة معطوبة في الزاویة ، و كرسي یتیم أكمل علیھ قصة الانتظار .. طلبي أتى مختلفا مرتین ، ولأنني خلقت قلیل الصبر، قبلت بالقھوة مع الحلیب !! علھا تكون أخف سوادا من أیامي الماضیة .. أشعر بالجمیع من حولي. قفزت عیناي من رأسي ، و راحتا تقرأ وجوه الحاضرین ، جمیعھم غارق بینھ وبین نفسھ، منشغل بمن معھ عن الآخرین. عوالم مختلفة ، اجتمعت في عالم واحد. بدئا من الطاولة الرباعیة المقابلة لي، تضم امرأة وھبت من عمرھا عمرا لطفلتیھا ، تحلقان حولھا ، و قسمت ما بقي منھ على رجل

یجلس أمامھا متكتف، متململ من نفسھ. یغطیھ الضجر بعد غیاب اللذة المؤقتة.. بید أن اللذان بجانبھم ، لا یزالان في أول رشفة من الكأس. كفین منعقدتین على سطح الطاولة ، و بخار قھوتھما یتصاعد راقصا فرحا. یرمقھا بشغف البحث عما وراء ابتسامتھا ، و تعزز فضولھ بغنج لامع . خبأ نضرتھ في خصلات شعرھا الكستنائي. لطالما بانت البدایات في أعیننا ، مثل ظھور جزیرة فجأة أمام غارق فقد الامل ، واستسلم لأمواج البحر.. تبا للوقت الذي یستعرض نفسھ على مسافة لا تتعدى المتر ،بین بریق البدایة ، و جفاف ما بعدھا.. أما عن وسط المقھى، فقد استوطنتھ مجموعة من الشباب والشابات، ورود في أوج ربیعھا ، و ملامح لم یطرق بابھا العناء بعد . ضحكاتھم الصریحة ، و صوت ھمھمتھ الذي لم أستطع إمساك كلمة منھ ، سوى مفردة انجلیزیة ، سمعتھا صدفة بأحد الأفلام ..في المستشفى . بعكس الثلاثة الذین یقعدون في الزاویة البعیدة، رجال قضوا عمرا بعید، رسمت الدنیا على وجوھھم خطوط طولھا، و أكدت الحجز بخطوط عرضھا على جبینھم ، یتھامسون و یبتسمون، ثم یسكتون ویحدقون فیمن حولھم ، ثم یداھم سكوتھم ضحكات مرھقة ، علھا تحمل معھا صورا من الذكریات ، أو ابتسامة فتاة عفویة من وراء الزجاج. أو قد یكون ذلك كلھ اصطناعا لإخفاء خیبة الزمن .. ھل یعد ھذا طبیعیا ؟؟ أم ان الابتعاد عن البشر جعلني أشعر بالغربة التي تساورني الآن ؟؟ ھل ھناك طریقة تحررني من نسیان ما ألم بي من فقد ؟؟ أم انھ القدر المحتم علي ؟؟ لا أستطیع

رؤیة من حولي بوضوح ، جمیعھم یبدون لي أنت ، كلما رحت بعیني في ملامح الحاضرین ، أرى قسماتك في أعینھم ، أشم رائحة عطرك في أنفاسھم التي عبأت المكان . لا أعرف ان كان ذلك ھوسا ، وھما ،سحر؟؟ أم أنھ واقع یحصل أمامي ، و قلبي یرفض تصدیقھ .. أجلس واضعا یدي على قلبي ، لأنھ المكان الوحید الذي ما تزالین ، وستظلین فیھ . أشعر بثورة كلام تصرخ في صدري ، تحاول الانفلات في أي لحضھ . أود لو بإمكاني نصح الجمیع ، و مخاطبتھم عن الألم الذي سببھ الفقد . رؤوسھم محشیة بأفكار غریبة ، یبدون أشیاء غیر الذي یكتمون ، فتلك لم تعد تحب زوجھا بعد الانجاب، تجلس معھ جسد فقط ، جسد یخبئ تحت العباءة ندبات و كدمات ، و صبر ینافس في جلده صلابة الحجر ، و ھو جالس معھا یفكر في حبیبتھ التي لم یظفر بھا ، لأنھا لم تكن على دینھ ، و لم تكن من ملتھ . أما عن العصافیر الجدد، فھي تخبئ عنھ سر مرضھا، وھو یخبئ عنھا سر عقمھ ، یحاولان انقاذ ما أفسده الدھر بموعد عابر، و یدارون بھ خیبات قلبیھما.. والشباب المجتمعین ، كانوا كلھم یتامى ، یخفون في داخلھم حب الحیاة، و یخططون الى رحلة بحث عن آبائھم ، ضحكاتھم كانت نابعة من جوف حسرة ، و كلمات حواراتھم الأجنبیة، لم تكن سوى واجھة ھشة ، قد یدمرھا أي طارئ وھم غافلون .

أعلم أنك تنتظر تعقیبي عن الكبار الثلاثة، لكن ما قرأتھ من رؤوسھم، كان معیبا أن أذكره على عذریة ورقتي البیضاء... ***** حربك مع ذلك "الخبیث" ، كما یسمیھ البعض، أو كما أسمیتھ أنا "الموت العاجل" ، غنیمتھا حیاتي التي أعیش الآن، و الواقع الخانق الذي فرض علي التماشي مع ضبابیتھ . لم أعرف ان الحیاة قد تصل في نظري الى ھذا السوء یا حلوتي، شعرك الأسود الذي سبق تساقطھ سقوط أوراق الخریف ، و شحوب نضرتك من الأدویة الكیماویة ، و رائحة المستشفى التي تعیش في أنفي ، و قلة النوم من القلق و التضرع بالدعاء، كانوا أھون علي من خطوة الخروج تلك... حقیقة، لم أجده قرارا ناجحا ، أن أترك رأسي ، و أخرج إلى رؤوس الآخرین.. قراءة أفكارھم ، والغوص في تفاصیل تفاصیلھم التي یضمرونھا بداخلھم، و رؤیة الجانب الخفي من أنفسھم . جعلت مني شخصا یفضل المكوث في عزلتھ ، والابتعاد عن ذلك التلوث بشكل قاطع.. أؤمن أن في حیاة كل انسان یحدث موقف لا تعود الحیاة بعده كما كانت ..

7 views0 comments
bottom of page